فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{قُل لِّلۡمُؤۡمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنۡ أَبۡصَٰرِهِمۡ وَيَحۡفَظُواْ فُرُوجَهُمۡۚ ذَٰلِكَ أَزۡكَىٰ لَهُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرُۢ بِمَا يَصۡنَعُونَ} (30)

لما ذكر سبحانه حكم الاستئذان ، أتبعه بذكر حكم النظر على العموم ، فيندرج تحته غضّ البصر من المستأذن ، كما قال صلى الله عليه وسلم : «إنما جعل الإذن من أجل البصر » وخص المؤمنين مع تحريمه على غيرهم ، لكون قطع ذرائع الزنا التي منها النظر هم أحق من غيرهم بها ، وأولى بذلك ممن سواهم . وقيل : إن في الآية دليلاً على أن الكفار غير مخاطبين بالشرعيات كما يقوله بعض أهل العلم ، وفي الكلام حذف ، والتقدير { قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ } غضوا { يَغُضُّواْ } ، ومعنى غضّ البصر : إطباق الجفن على العين بحيث تمتنع الرؤية ، ومنه قول جرير :

فغضّ الطرف إنك من نمير *** فلا كعباً بلغت ولا كلابا

وقول عنترة :

وأغضّ طرفي ما بدت لي جارتي *** حتى يوارى جارتي مأواها

و«من » في قوله { مِنْ أبصارهم } هي : التبعيضية ، وإليه ذهب الأكثرون ، وبينوه بأن المعنى : غضّ البصر عما يحرم والاقتصار به على ما يحل . وقيل : وجه التبعيض : أنه يعفى للناظر أوّل نظرة تقع من غير قصد . وقال الأخفش : إنها زائدة ، وأنكر ذلك سيبويه . وقيل : إنها لبيان الجنس قاله أبو البقاء . واعترض عليه : بأنه لم يتقدّم مبهم يكون مفسراً بمن ، وقيل : إنها لابتداء الغاية قاله ابن عطية ، وقيل : الغضّ النقصان ، يقال : غضّ فلان من فلان أي : وضع منه ، فالبصر إذا لم يمكن من عمله ، فهو : مغضوض منه ومنقوص ، فتكون " مِنْ " صلة للغضّ ، وليست لمعنى من تلك المعاني الأربعة . وفي هذه الآية دليل على تحريم النظر إلى غير من يحلّ النظر إليه ، ومعنى { وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ } : أنه يجب عليهم حفظها عما يحرم عليهم . وقيل : المراد ستر فروجهم عن أن يراها من لا تحلّ له رؤيتها ، ولا مانع من إرادة المعنيين ، فالكل يدخل تحت حفظ الفرج . قيل : ووجه المجيء بمن في الأبصار دون الفروج أنه موسع في النظر فإنه لا يحرم منه إلاّ ما استثنى ، بخلاف حفظ الفرج فإنه مضيق فيه ، فإنه لا يحلّ منه إلاّ ما استثنى . وقيل : الوجه أن غضّ البصر كله كالمتعذر ، بخلاف حفظ الفرج فإنه ممكن على الإطلاق ، والإشارة بقوله : { ذلك } إلى ما ذكر من الغضّ ، والحفظ ، وهو مبتدأ ، وخبره : { أزكى لَهُمْ } أي أظهر لهم من دنس الريبة ، وأطيب من التلبس بهذه الدنيئة { إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } لا يخفى عليه شيء من صنعهم ، وفي ذلك وعيد لمن لم يغضّ بصره ، ويحفظ فرجه .

/خ31