استئناف انتقل إليه بعد أن تُوُعِّد المشركون بما يحصل لهم من التغابن يوم يجمع الله الناس يوم الحساب . ويشبه أن يكون استئنافاً بيانياً لأن تهديد المشركين بيوم الحساب يثير في نفوس المؤمنين التساؤل عن الانتصاف من المشركين في الدنيا على ما يلقاه المسلمون من إضرارهم بمكة فإنهم لم يكفوا عن أذى المسلمين وإصابتهم في أبدَانهم وأموالهم والفتنة بينهم وبين أزواجهم وأبنائهم .
فالمراد : المصائبُ التي أصابت المسلمين من معاملة المشركين فأنبأهم الله بما يسليهم عن ذلك بأن الله عالم بما ينالهم . وقال القرطبي « قيل سبب نزولها أن الكفار قالوا : لو كان ما عليه المسلمون حقاً لصانهم الله عن المصائب » .
واختصت المصيبة في استعمال اللغة بما يَلحق الإِنسان من شر وضر وإن كان أصل فعلها يقال كما يصيب الإِنسان مطلقاً ولكن غلب إطلاق فعل أصاب على لحاق السوء ، وقد قيل في قوله تعالى : { ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك } [ النساء : 79 ] ، أن إسناد الإِصابة إلى الحسنة من قبيل المشاكلة .
وتأنيث المصيبة لتأويلها بالحادثة وتقدم عند قوله تعالى : { أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها } في سورة [ آل عمران : 165 ] .
والإِذن : أصله إجازة الفعل لمن يفعله وأطلق على إباحة الدخول إلى البيت وإزالة الحجاب لأنه مشتق من أذِن له إذا سمع كلامه . وهو هنا مستعار لتكوين أسباب الحوادث . وهي الأسباب التي تفضي في نظام العادة إلى وقوععِ واقعات ، وهي من آثار صنع الله في نظام هذا العالم من ربط المسببات بأسبابها مع علمه بما تفضي إليه تلك الأسباب فلما كان هو الذي أوجد الأسباب وأسبابَ أسبابها ، وكان قد جعل ذلك كله أصولاً وفروعاً بعلمه وحكمته ، أطلق على ذلك التقدير والتكوين لفظُ الإِذن ، والمشابهة ظاهرة ، وهذا في معنى قوله : { ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها } [ الحديد : 22 ] .
ومقتضى هذه الاستعارة تقريب حقيقة التقلبات الدنيوية إلى عقول المسلمين باختصار العبارة لضيق المقام عن الإِطناب في بيان العلل والأسباب ، ولأن أكثر ذلك لا تبلغ إليه عقول عموم الأمة بسهولة . والقصد من هذا تعليم المسلمين الصبر على ما يغلبهم من مصائب الحوادث لكيلا تُفَلّ عزائمهم ولا يهنوا ولا يلهيهم الحزن عن مهمات أمورهم وتدبير شؤونهم كما قال في سورة [ الحديد : 23 ] { لكيلا تأسَوا على ما فاتكم } .
ولذلك أعقبه هنا بقوله : { ومن يؤمن بالله يهد قلبه } ، أي يهد قلبه عندما تصيبه مصيبة ، فحذف هذا المتعلق لظهوره من السياق قال : { ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين إن يَمْسَسْكُم قَرح فقد مسّ القوم قرْح مثلُه وتلك الأيام نداولها بين الناس } [ آل عمران : 139 - 140 ] .
والمعنى : أن المؤمن مرتاض بالأخلاق الإِسلامية متبع لوصايا الله تعالى فهو مجاف لفاسد الأخلاق من الجزع والهلع يتلقى ما يصيبه من مصيبة بالصبر والتفكر في أن الحياة لا تخلو من عوارض مؤلمة أو مكدرة . قال تعالى : { وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون } [ البقرة : 155 - 157 ] ، أي أصحاب الهدى الكامل لأنه هدىً متلقىًّ من التعاليم الإلهية الحق المعصومة من الخطل كقوله هنا : { يهد قلبه } .
وهذا الخبر في قوله : { ومن يؤمن بالله يهد قلبه } إيماء إلى الأمر بالثبات والصبر عند حلول المصائب لأنه يلزم من هدْي الله قلب المؤمن عند المصيبة ترغيب المؤمنين في الثبات والتصبر عند حلول المصائب فلذلك ذيل بجملة { والله بكل شيء عليم } فهو تذييل للجملة التي قبلها وارد على مراعاة جميع ما تضمنته من أن المصائب بإذن الله ، ومن أن الله يهدي قلوب المؤمنين للثبات عند حلول المصائب ومن الأمر بالثبات والصبر عند المصائب ، أي يعلم جميع ذلك .
وفيه كناية عن مجازاة الصابرين بالثواب لأن فائدة علم الله التي تهم الناس هو التخلق ورجاء الثواب ورفع الدرجات .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ما أصاب} ابن آدم {من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه} يعني ومن يصدق بالله في المصيبة، ويعلم أن المصيبة من الله ويسلم لأمر الله يهده الله تعالى للاسترجاع، فذلك قوله: {يهد قلبه} للاسترجاع، يقول: {إنا لله وإنا إليه راجعون} [البقرة:156]، وفي سورة البقرة يقول: {أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون} [البقرة:157] للاسترجاع {والله بكل شيء} من هذا {عليم}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: لم يصب أحدا من الخلق مصيبة إلا بإذن الله، يقول: إلا بقضاء الله وتقديره ذلك عليه." وَمَنْ يُؤمِنْ باللّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ "يقول: ومن يصدّق بالله فيعلم أنه لا أحد تصيبه مصيبة إلا بإذن الله بذلك "يهد قلبه": يقول: يوفّق الله قلبه بالتسليم لأمره والرضا بقضائه...
وقوله: "وَاللّهُ بِكُلّ شَيْءٍ عَليمٌ" يقول: والله بكلّ شيء ذو علم بما كان ويكون وما هو كائن من قبل أن يكون...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{بإذن الله} يعني بأمر الله... {بإذن الله} يعني بعلم الله... {بإذن الله} يعني بمشيئة الله، ولكل من ذلك وجه...
. أي من آمن بما شاهد من التدبير يهده الله تعالى ليعلم أن من دبر هذا التدبير هو الذي ابتلاه بهذه المصيبة...
من يؤمن بالله أن له الخلق والأمر يهد قلبه ليسكن، ويعلم أن الله أولى به...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
والمصيبة: المضرة التي تلحق صاحبها كالرمية التي تصيبه...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{إِلاَّ بِإِذْنِ الله} إلا بتقديره ومشيئته، كأنه أذن للمصيبة أن تصيبه {يَهْدِ قَلْبَهُ} يلطف به ويشرحه للازدياد من الطاعة والخير...
{والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} يعلم ما يؤثر فيه اللطف من القلوب مما لا يؤثر فيه فيمنحه ويمنعه...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{ما أصاب من مصيبة} يحتمل أن يريد المصائب التي هي رزايا وخصها بالذكر بأنها الأهم على الناس والأبين أثراً في أنفسهم، ويحتمل أن يريد جميع الحوادث من خير وشر، وذلك أن الحكم واحد في أنها {بإذن الله}، والإذن في هذا الموضع عبارة عن العلم والإرادة وتمكين الوقوع...
{ومن يؤمن بالله يهد قلبه} قال فيه المفسرون المعنى: ومن آمن وعرف أن كل شيء بقضاء الله وقدره، وعلمه، هانت عليه مصيبته وسلم الأمر لله تعالى...
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
قَالَ الْقَاضِي: أَدْخَلَ عُلَمَاؤُنَا هَذِهِ الْآيَةَ فِي فُنُونِ الْأَحْكَامِ، وَقَالُوا: إنَّ ذَلِكَ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ وَالتَّسْلِيمَ لِمَا يَنْفُذُ من أَمْرِ اللَّهِ، وَالْمِقْدَارُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ مِنْهُ بِالْأَحْكَامِ أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى الْمَصَائِبِ لِعِلْمِ الْعَبْدِ بِالْمَقَادِيرِ من أَعْمَالِ الْقُلُوبِ؛ وَهَذَا خَارِجٌ عَنْ سُبُلِ الْأَحْكَامِ، لَكِنْ لِلْجَوَارِحِ فِي ذَلِكَ أَعْمَالٌ مِنْ دَمْعِ الْعَيْنِ، وَالْقَوْلِ بِاللِّسَانِ، وَالْعَمَلِ بِالْجَوَارِحِ، فَإِذَا هَدَأَ الْقَلْبُ جَرَى اللِّسَانُ بِالْحَقِّ. وَرَكَدَت الْجَوَارِحُ عَن الْخَرْقِ، وَلَو اسْتَرْسَلَ الدَّمْعُ لَمْ يَضُرَّ. قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُبَيِّنًا لِذَلِكَ: {تَدْمَعُ الْعَيْنُ، وَيَحْزَنُ الْقَلْبُ، وَلَا نَقُولُ إلَّا مَا يُرْضِي رَبَّنَا، وَإِنَّا بِك يَا إبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ»...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ما أصاب} أي أحداً يمكن المصائب أن تتوجه إليه، وذكر الفعل إشارة إلى القوة، وأعرق في النفي بقوله: {من مصيبة} أيّ مصيبة كانت دينية أو دنيوية من كفر أو غيره {إلا بإذن الله} أي بتقدير الملك الأعظم وتمكينه، فلا ينبغي لمؤمن أن يعوقه شيء من ذلك عن التقوى النافعة في يوم التغابن...
{ومن يؤمن بالله} أي يوجد الإيمان في وقت من الأوقات ويجدده بشهادة أن لا إله إلا الله و أن محمداً رسول الله بسبب الملك الأعظم وتقديره وإذنه {يهد قلبه} أي يزده هداية بما يجدده له من التوفيق في كل وقت حتى يرسخ إيمانه فتنزاح عنه كل مصيبة، فإنه يتذكر أنها من الله وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه فيسلم بقضائه فيصبر له ويفعل ويقول ما أمر الله به ورسوله فيخف عليه...
{والله} أي الملك الذي لا نظير له {بكل شيء} مطلقاً من غير مثنوية {عليم} فإذا تحقق من هدى قلبه ذلك زاح كل اعتقاد باطل من كفر أو بدعة أو صفة خبيثة.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هو الإيمان الذي يرد كل شيء إلى الله، ويعتقد أن كل ما يصيب من خير ومن شر فهو بإذن الله. وهي حقيقة لا يكون إيمان بغيرها. فهي أساس جميع المشاعر الإيمانية عند مواجهة الحياة بأحداثها خيرها وشرها. كما يجوز أن تكون هناك مناسبة حاضرة في واقع الحال عند نزول هذه السورة. أو هذه الآية من السورة، فيما كان يقع بين المؤمنين والمشركين من وقائع...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
واختصت المصيبة في استعمال اللغة بما يَلحق الإِنسان من شر وضر وإن كان أصل فعلها يقال كما يصيب الإِنسان مطلقاً ولكن غلب إطلاق فعل أصاب على لحاق السوء، وقد قيل في قوله تعالى: {ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك} [النساء: 79]...
والقصد من هذا تعليم المسلمين الصبر على ما يغلبهم من مصائب الحوادث لكيلا تُفَلّ عزائمهم ولا يهنوا ولا يلهيهم الحزن عن مهمات أمورهم وتدبير شؤونهم...
. {ومن يؤمن بالله يهد قلبه}، أي يهد قلبه عندما تصيبه مصيبة...
. والمعنى: أن المؤمن مرتاض بالأخلاق الإِسلامية متبع لوصايا الله تعالى فهو مجاف لفاسد الأخلاق من الجزع والهلع يتلقى ما يصيبه من مصيبة بالصبر والتفكر في أن الحياة لا تخلو من عوارض مؤلمة أو مكدرة...
. {ومن يؤمن بالله يهد قلبه} إيماء إلى الأمر بالثبات والصبر عند حلول المصائب لأنه يلزم من هدْي الله قلب المؤمن عند المصيبة ترغيب المؤمنين في الثبات والتصبر عند حلول المصائب فلذلك ذيل بجملة {والله بكل شيء عليم}...
.وفيه كناية عن مجازاة الصابرين بالثواب لأن فائدة علم الله التي تهم الناس هو التخلق ورجاء الثواب ورفع الدرجات...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
هذه هي الحقيقة الإيمانية التكوينية التي تجسد النظام العام للتدبير الإلهي لحركة الكون والحياة والإنسان، والتي تقرر بأن الحوادث المتنوعة في حياة الإنسان خاضعةٌ للقوانين الإلهية التي تحرك الوقائع، في ما يمثل السنن الكونية والاجتماعية، فلا مجال لأية حادثة إلا من خلال التقدير الإلهي لها، سواء كان ذلك بسبب مباشرٍ أو غير مباشر...
وليس معنى ذلك أن هذه المصائب التي تحدث للإنسان موضع رضا الله من الناحية التشريعية، لأن المسألة ليست مسألة الفعل المباشر من الله، بل هي مسألة السبب الذي جعل الله إدارته بيد العباد، وجعل العلاقة بينه وبين النتائج علاقة قانونية متصلةً بالسنن العامة، ولذلك نهى الله الإنسان عن إيجاد بعض الأسباب...
{وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} في ما يحيط به من علاقات الأشياء ببعضها البعض، وارتباط المسببات بأسبابها، وحركة الإنسان في داخل عقله وروحه...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
(ما أصاب من مصيبة إلاّ بإذن الله). فما يجري من حوادث كلّها بإذن الله لا تخرج عن إرادته أبداً، وهذا هو معنى التوحيد الأفعالي، وإنّما بدأ بذكر المصائب باعتبارها هي التي يستفهم عنها الإنسان دائماً وتشغل تفكيره. وعندما نقول يقع ذلك بإرادة الله، فإنّما نعني «الإرادة التكوينية» لا الإرادة التشريعية. وهنا يطرح سؤال مهمّ وهو: إنّ كثيراً من هذه الحوادث والكوارث التي تنزل بالناس تأتي من ظلم الظالمين وطغيان الجبابرة، أو أنّ الإنسان يبتلي بها بسبب الغفلة والجهل والتقصير... فهل أنّ ذلك كلّه بإذن الله؟ للإجابة على هذا السؤال نرجع إلى مجموع الآيات التي وردت في هذا المجال، فنلاحظ أنّها عرضت المصائب على نوعين: الأوّل: ما يكون جزءاً من طبيعة تكوين الإنسان كالموت والحوادث الطبيعية الأخرى، وهذه لا يستطيع الإنسان أن يدفعها عنه، فيقرّر القرآن الكريم بأنّ ذلك يقع بإذن الله. الثّاني: هو تلك المصائب التي تأتي من تقصير الإنسان ومن عمل يده، وله الدور الأساسي في تحقّقها، وهذه يقول القرآن: إنّها تصيبكم بسبب أعمالكم. وبناءً على ذلك فليس للإنسان أن يستسلم للظلم والجهل والفقر. ومن البديهي أنّ إرادة الله تتدخّل في جميع الأمور حتّى تلك الخاضعة لإرادة الإنسان وفعله، إذ لا تأثير لجميع الأسباب إلاّ بإذنه، وكلّ شيء خاضع لإرادته وسلطانه، ويبشّر القرآن المؤمنين بقوله: (ومن يؤمن بالله يهد قلبه). فالمؤمن لا تهزمه المصائب ولا ييأس ولا يجزع. والله يهدي الإنسان حينما يكون شكوراً لنعمه، صابراً على بلائه، مستسلماً لقضائه. ولهداية القلوب معاني كثيرة منها (الصبر) و (التسليم) و (الشكر) و (الرضى) وقول: (إنّا لله وإنّا إليه راجعون) وعندما يذكر المفسّرون أحد هذه الأمور، فإنّما يريدون بيان مصداق من مصاديق الآية لا معناها الكلّي. وتقول الآية في نهاية المطاف (والله بكلّ شيء عليم)...