التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{إِنَّآ أَعۡطَيۡنَٰكَ ٱلۡكَوۡثَرَ} (1)

مقدمة السورة:

سميت هذه السورة في جميع المصاحف التي رأيناها في جميع التفاسير أيضا { سورة الكوثر } وكذلك عنونها الترمذي في كتاب التفسير من جامعه . وعنونها البخاري في صحيحه سورة { إنا أعطيناك الكوثر } ولم يعدها في الإتقان مع السور التي ليس لها أكثر من اسم .

ونقل سعد الله الشهير بسعدي في حاشيته على تفسير البيضاوي عن البقاعي أنها تسمى { سورة النحر } وهل هي مكية أو مدنية? تعارضت الأقوال والآثار في أنها مكية أو مدنية تعارضا شديدا ، فهي مكية عند الجمهور وأقتصر عليه أكثر المفسرين ، ونقل الخفاجي عن كتاب النشر قال : أجمع من نعرفه على أنها مكية . قال الخفاجي : وفيه نظر مع وجود الاختلاف فيها .

وعن الحسن ومجاهد وقتادة وعكرمة هي مدنية ويشهد لهم ما في صحيح مسلم عن أنس بن مالك بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه وقال : أنزلت علي آنفا سورة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم { إنا أعطيناك الكوثر فصل لربك وأنحر إن شانئك هو الأبتر } ثم قال : أتدرون ما الكوثر? قلنا الله ورسوله أعلم . قال : فإنه نهر وعدنيه ربي عز وجل ، عليه خير كثير هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة الحديث . وأنس أسلم في صدر الهجرة فإذا كان لفظ { آنفا } في كلام النبي صلى الله عليه وسلم مستعملا في ظاهر معناه وهو الزمن القريب ، فالسورة نزلت منذ وقت قريب من حصول تلك الرؤيا .

ومقتضى ما يروى في تفسير قوله تعالى { إن شانئك هو الأبتر } أن تكون السورة مكية ، ومقتضى ظاهر تفسير قوله تعالى { وانحر } من أن النحر في الحج أو يوم الأضحى تكون السورة مدنية ويبعث على أن قوله تعالى { إن شانئك هو الأبتر } ليس ردا على كلام العاصي بن وائل كما سنبين ذلك .

والأظهر أن هذه السورة مدنية وعلى هذا سنعتمد في تفسير آياتها .

وعلى القول بأنها مكية عدوها الخامسة عشرة في عداد نزول السور ، نزلت بعد سورة العاديات وقبل سورة التكاثر . وعلى القول بأنها مدنية فقد قيل : إنها نزلت في الحديبية .

وعدد آيها ثلاث بالاتفاق .

وهي أقصر سور القرآن عدد كلمات وعدد حروف ، وأما في عدد الآيات فسورة العصر وسورة النصر مثلها ولكن كلماتها أكثر .

أغراضها

اشتملت على بشارة النبي صلى الله عليه وسلم بأنه أعطي الخير الكثير في الدنيا والآخرة .

وأمره بأن يشكر الله على ذلك بالإقبال على العبادة .

وأن ذلك هو الكمال الحق لا ما يتطاول به المشركون على المسلمين بالثروة والنعمة وهم مغضوب عليهم من الله تعالى لأنهم أبغضوا رسوله ، وغضب الله بتر لهم إذا كانوا بمحل السخط من الله .

وإن انقطاع الولد الذكر فليس بترا لأن ذلك لا أثر له في كلام الإنسان .

افتتاح الكلام بحرف التأكيد للاهتمام بالخبر . والإِشعار بأنه شيء عظيم يستتبع الإِشعار بتنويه شأن النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم في { إنا أنزلناه في ليلة القدر } [ القدر : 1 ] . والكلام مسوق مساق البشارة وإنشاء العطاء لا مساق الإخبار بعطاء سابق .

وضمير العظمة مشعر بالامتنان بعطاء عظيم .

و { الكوثر } : اسم في اللغة للخير الكثير صيغ على زِنة فوْعل ، وهي من صيغ الأسماء الجامدة غالباً نحو الكوكب ، والجورب ، والحوشب والدوسر{[465]} ، ولا تدل في الجوامد على غير مسماها ، ولما وقع هنا فيها مادة الكَثْر كانت صيغته مفيدة شدة ما اشتقت منه بناء على أن زيادة المبنى تؤذن بزيادة المعنى ، ولذلك فسره الزمخشري بالمفرط في الكثرة ، وهو أحسن ما فُسر به وأضبطُه ، ونظيره : جَوْهر ، بمعنى الشجاع كأنه يجاهر عدوّه ، والصومعة لاشتقاقها من وصف أصمع وهو دقيق الأعضاء لأن الصومعة دقيقة لأن طولها أفرط من غلظها .

ويوصفُ الرجل صاحب الخير الكثير بكَوثر من باب الوصف بالمصدر كما في قول لبيد في رثاء عوف بن الأحوص الأسدي :

وصاحب ملحوب فُجعنا بفقده *** وعند الرّداع بيتُ آخر كوثر

( ملحوب والرداع ) كلاهما ماء لبني أسد بن خزيمة ، فوصف البيت بكوثر ولاحظ الكميت هذا في قوله في مدح عبد الملك بن مروان :

وأنتَ كثيرٌ يا ابنَ مروان طيبٌ *** وكان أبوك ابنُ العقايل كَوْثرا

وسمي نهر الجنة كوثراً كما في حديث مسلم عن أنس بن مالك المتقدم آنفاً .

وقد فسر السلف الكوثر في هذه الآية بتفاسير أعمها أنه الخير الكثير ، وروي عن ابن عباس ، قال سعيد بن جبير فقلت لابن عباس : إن ناساً يقولون هو نهر في الجنة ، فقال : هو من الخير الكثير . وعن عكرمة : الكوثر هنا : النبوءة والكتاب ، وعن الحسن : هو القرآن ، وعن المغيرة : أنه الإِسلام ، وعن أبي بكر بن عَيَّاش : هو كثرة الأمة ، وحكى الماوردي : أنه رفعة الذكر ، وأنه نور القلب ، وأنه الشفاعة ، وكلام النبي صلى الله عليه وسلم المروي في حديث أنس لا يقتضي حصر معاني اللفظ فيما ذكره .

وأريد من هذا الخبر بشارة النبي صلى الله عليه وسلم وإزالةُ ما عسى أن يكون في خاطره من قول من قال فيه : هو أبتر ، فقوبل معنى الأبتر بمعنى الكوثر ، إبطالاً لقولهم .


[465]:- الجورب: ثب يجعل في صورة خف وتلف فيه الرجل، والحوشب: المنتفخ الجنبين وعظم في باطن الحافر، واسم للأرنب الذكر، والثعلب الذكر، والدوسر: الضخم الشديد.