البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{إِنَّآ أَعۡطَيۡنَٰكَ ٱلۡكَوۡثَرَ} (1)

مقدمة السورة:

سورة الكوثر

هذه السورة مكية في المشهور ، وقول الجمهور : مدنية في قول الحسن وعكرمة وقتادة . ولما ذكر فيما قبلها وصف المنافق بالبخل وترك الصلاة والرياء ومنع الزكاة ، قابل في هذه السورة البخل ب { إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ } ، والسهو في الصلاة بقوله : { فَصْلٌ } ، والرياء بقوله : { لِرَبّكِ } ، ومنع الزكاة بقوله : { وَانْحَرْ } ، أراد به التصدّق بلحم الأضاحي ، فقابل أربعاً بأربع . ونزلت في العاصي بن وائل ، كان يسمي الرسول صلى الله عليه وسلم بالأبتر ، وكان يقول : دعوه إنما هو رجل أبتر لا عقب له ، لو هلك انقطع ذكره واسترحتم منه .

وقرأ الجمهور : { أعطيناك } بالعين ؛ والحسن وطلحة وابن محيصن والزعفراني : أنطيناك بالنون ، وهي قراءة مروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

قال التبريزي : هي لغة للعرب العاربة من أولي قريش .

ومن كلامه صلى الله عليه وسلم : « اليد العلياء المنطية واليد السفلى المنطاة » ومن كلامه أيضاً ، عليه الصلاة والسلام : « وأنطوا النيحة » وقال الأعشى :

جيادك خير جياد الملوك *** تصان الحلال وتنطى السعيرا

قال أبو الفضل الرازي وأبو زكريا التبرزي : أبدل من العين نوناً ؛ فإن عنيا النون في هذه اللغة مكان العين في غيرها فحسن ، وإن عنيا البدل الصناعي فليس كذلك ، بل كل واحد من اللغتين أصل بنفسها لوجود تمام التصرّف من كل واحدة ، فلا يقول الأصل العين ، ثم أبدلت النون منها .

وذكر في التحرير : في الكوثر ستة وعشرين قولاً ، والصحيح هو ما فسره به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : « هو نهر في الجنة ، حافتاه من ذهب ، ومجراه على الدر والياقوت ، تربته أطيب من المسك ، وماؤه أحلى من العسل وأبيض من الثلج » قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح .

وفي صحيح مسلم ، واقتطعنا منه ، قال : « أتدرون ما الكوثر ؟ قلنا : الله ورسوله أعلم .

قال : نهر وعدنيه ربي عليه خير كثير هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة ، آنيته عدد النجوم » انتهى .

قال ذلك عليه الصلاة والسلام عندما نزلت هذه السورة وقرأها .

وقال ابن عباس : الكوثر : الخير الكثير .

وقيل لابن جبير : إن ناساً يقولون : هو نهر في الجنة ، فقال : هو من الخير الكثير .

وقال الحسن : الكوثر : القرآن .

وقال أبو بكر بن عباس ويمان بن وثاب : كثرة الأصحاب والأتباع .

وقال هلال بن يساف : هو التوحيد .

وقال جعفر الصادق : نور قلبه دله على الله تعالى وقطعه عما سواه .

وقال عكرمة : النبوّة .

وقال الحسن بن الفضل : تيسير القرآن وتخفيف الشرائع .

وقال ابن كيسان : الإيثار .

وينبغي حمل هذه الأقوال على التمثيل ، لا أن الكوثر منحصر في واحد منها .

والكوثر فوعل من الكثرة ، وهو المفرط الكثرة .

قيل لأعرابية رجع ابنها من السفر : بم آب ابنك ؟ قالت : آب بكوثر .

وقال الشاعر :

وأنت كثير يا ابن مروان طيب *** وكان أبوك ابن العقائل كوثرا