( سورة الكوثر مكية ، وعن قتادة : مدنية . حروفها اثنان وأربعون . كلمها عشر . آياتها ثلاث ) .
التفسير : هذه السورة كالمقابلة للسورة المتقدمة ؛ لأن تلك مثال لكون الإنسان في خسر ، وهذه للمستثنين منهم ؛ بل لأشرفهم وأفضلهم وهو النبي صلى الله عليه وسلم ؛ بل له ولشانيه ، فكأنها مثال للفريقين جميعاً . هذا وجه إجمالي ، وأما الوجه التفصيلي فقوله : { إنا أعطيناك الكوثر } أي الخير الكثير ، وقع في مقابلة الدع والمنع من الإطعام .
وقوله { فصل } أي دم على الصلاة ، وقع بإزاء قوله { عن صلاتهم ساهون } [ الماعون :5 ] وقوله { لربك } مكان قوله { يراءون } [ الماعون :6 ] وقوله { وانحر } والمراد به التصدق بلحوم الأضاحي بحذاء قوله { ويمنعون الماعون } [ الماعون :7 ] .
ثم ختم السورة بقوله { إن شانئك هو الأبتر } أي الذي تضاد طريقته طريقتك سيزول عنه ما يفتخر به من المال والجاه والأحساب والأنساب ، ويبقى لك ولمتابعيك الذكر الجميل في الدنيا والثواب الجزيل في العقبى ، بل يدوم لك النسب الصوري بسبب أولادك الشرفاء ، والنسب المعنوي بواسطة أتباعك العلماء .
ثم في الآية أصناف من المبالغة منها : التصدير ب " إن " ومنها الجمع المفيد للتعظيم ، ومنها لفظ الإعطاء دون الإيتاء ، ففي الإعطاء دليل التمليك دون الإيتاء ، ولهذا حين قال { ولقد آتيناك سبعاً من المثاني }
[ الحجر :7 ] كان أمته مشاركين له في فوائدها ولم يكن له منعهم منها . ومنها صيغة المضي الدالة على التحقيق في وعد الله تعالى كما هي عادة القرآن ، ومنها لفظ الكوثر ، وهو مبالغة في الكثرة بزيادة الواو كجدول ، فيشمل خيرات الدنيا والآخرة ، إلا أن أكثر المفسرين خصوه فحملوه على أنه اسم نهر في الجنة . عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم : " رأيت نهراً في الجنة حافتاه قباب اللؤلؤ المجوف ، فضربت بيدي إلى مجرى الماء فإذا أنا بمسك أذفر ، فقلت : ما هذا ؟ فقيل : هو الكوثر الذي أعطاك الله " ، وفي رواية : " ماؤه أشد بياضاً من اللبن ، وأحلى من العسل . فيه طيور خضر لها أعناق كأعناق البخت ، من أكل من ذلك الطير وشرب من ذلك الماء فاز بالرضوان " . قال أهل المعنى : ولعله إنما سمى كوثراً ؛ لأنه أكثر أنهار الجنة ماء وخيراً ، أو لأن أنهار الجنة تتفجر منه ، كما روي أنه ما في الجنة بستان إلا وفيه من الكوثر نهر جار ، أو لكثرة شاربيه . وقد يقال : إن الكوثر حوض في الجنة على ما ورد في الأخبار ، فلعل منبعه حوض ومنه تسيل الأنهار .
والقول الثالث : إن الكوثر أولاده ؛ لأن هذه السورة نزلت رداً على من زعم أنه الأبتر كما يجيء ، والمعنى أنه يعطيه بفاطمة نسلاً يبقون على مر الزمان . فانظر كم قتل من أهل البيت ثم العالم مملوء منهم ، ولم يبق من بني أمية في الدنيا أحد يعبأ به ، والعلماء الأكابر منهم لا حد ولا حصر لهم ، منهم الباقر والصادق والكاظم والرضي والتقي والنقي والزكي وغيرهم .
القول الرابع : الكوثر علماء أمته ؛ لأنهم كأنبياء بني إسرائيل ، واختلافهم في فروع الشريعة رحمة كما كان اختلاف الأنبياء في الفروع رحمة مع اتفاقهم على الأصول ، فالتوحيد والنبوة والمعاد كأصول الشجرة ، وأديان الأنبياء كشعبها الكبار ، والمذاهب كالأغصان المتفرعة عن الشعب .
الخامس : الكوثر النبوة ، ولا يخفى ما فيها من الخير الكثير ؛ لأنها ثانية رتبة الربوبية ، ولهذا كانت طاعة الرسول طاعة الله ، ثم لرسولنا الحظ الأوفر من هذه الفضيلة ؛ لأنه المذكور قبل سائر الأنبياء ، والمبعوث بعدهم ، ثم هو مبعوث إلى الثقلين ، ولن يصير شرعه منسوخاً ، وله كل معجزة كانت لغيره من الأنبياء المشهورين ، وكتاب آدم كان كلمات كما قال { فتلقى آدم من ربه كلمات } [ البقرة :37 ] ، وكتاب إبراهيم وموسى كان كلمات وصحفاً { وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات } [ البقرة :124 ] ، و { صحف إبراهيم وموسى } [ الأعلى :19 ] ، وكتاب محمد صلى الله عليه وسلم مهيمن على الكل كما قال { ومهيمنا عليه } [ المائدة : 48 ] ، وإن آدم عليه السلام تحدى بالكلمات والأسماء { أنبئوني بأسماء هؤلاء } [ البقرة :31 ] ، ومحمد صلى الله عليه وسلم إنما تحدى بالمنظوم { قل لئن اجتمعت الإنس والجن } [ الإسراء :88 ] الآية . وأما نوح عليه السلام فإن الله أكرمه بأن أمسك سفينته على الماء ، وفي حق محمد صلى الله عليه وسلم وقف الحجر على الماء . وروي أنه صلى الله عليه وسلم كان على شط ماء ومعه عكرمة بن أبي جهل فقال : إن كنت صادقاً فادع ذلك الحجر الذي هو في الجانب فليسبح ولا يغرق ، فأشار الرسول صلى الله عليه وسلم إليه فانقلع الحجر من مكانه وسبح حتى صار بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم ، وشهد له بالرسالة . فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : يكفيك هذا ؟ قال : حتى يرجع إلى مكانه . فأمره النبي صلى الله عليه وسلم فرجع إلى مكانه . وأكرم إبراهيم فجعل النار برداً وسلاماً عليه . وروى محمد بن حاطب قال : كنت طفلاً فانصب القدر من على النار علي ، فاحترق جلدي كله ، فحملتني أمي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت : هذا ابن حاطب احترق كما ترى ، فتفل رسول الله صلى الله عليه وسلم على جلدي ، ومسح بيده على المحترق منه ، وقال صلى الله عليه وسلم : أذهب البأس رب الناس . فصرت صحيحاً لا بأس بي . وأكرم موسى بفلق البحر في الأرض ، وأكرم محمداًً صلى الله عليه وسلم ففلق له القمر فوق السماء . وفجر له الماء من الحجر ، وفجر لمحمد صلى الله عليه وسلم أصابعه عيوناً ، وأكرم موسى بتظليل الغمام في زمان نبوته ، وأكرم محمداً صلى الله عليه وسلم بذلك قبل ظهور نبوته . وأكرم موسى عليه السلام باليد البيضاء ، وأكرم محمداً صلى الله عليه وسلم بالقرآن العظيم الذي هو نور من الله برهان . وقلب الله عصى موسى ثعباناً ، ولما أراد أبو جهل أن يرميه بالحجر رأى على كتفيه ثعبانين فانصرف مرعوباً . وسبحت الجبال مع داود عليه السلام ، وسبحت الأحجار في يده ويد أصحابه . وكان داود عليه السلام إذا مسح الحديد لان ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم حين مسح الشاة الجدباء درت . وأكرم داود بالطير المحشورة ، ومحمداً صلى الله عليه وسلم بالبراق . وأكرم عيسى بإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص ، وأكرمه صلى الله عليه وسلم بإحياء الشاة المسمومة وبتكلمها أنها مسمومة . وروي أن معاذ بن عفراء كانت له امرأة برصاء فشكت ذلك إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فمسح عليها بغصن فأذهب الله عنها البرص ، وحين سقطت حدقة رجل يوم أحد رفعها رسول الله صلى الله عليه وسلم فردها إلى مكانها . وكان عيسى يخبر بما في بيوت الناس ، والرسول صلى الله عليه وسلم عرف ما أخفته أم الفضل فأسلم العباس لذلك . ورد الشمس لسليمان مرة ، والرسول كان نائماً ورأسه في حجر علي عليه السلام فانتبه وقد غربت الشمس فردّها حتى صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وردها مرة أخرى لعلي عليه السلام فصلى العصر لوقته . وعلم سليمان منطق الطير ، وفعل ذلك في حق محمد صلى الله عليه وسلم ، روي أن طائراً فجع بولده فجعل يرفرف على رأسه ويكلمه فقال : أيكم فجع هذه بولدها ؟ فقال رجل : أنا فقال : اردد ولدها ، وكلام الذئب والناقة معه مشهور . وأكرم سليمان بمسير غدو شهر ، وأكرمه بالمسير إلى بيت المقدس في ساعة ، وكان له صلى الله عليه وسلم يعفور يرسله إلى من يريد فيجيء به ، وأرسل معاذاً إلى بعض النواحي فلما وصل إلى المفازة فإذا أسد جاثٍ فهاله ذلك ولم يستجرىء أن يرجع فتقدم وقال : إني رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم فتبصبص . وكما انقاد الجن لسليمان انقادوا لمحمد صلى الله عليه وسلم . وحين جاء الأعرابي بالضب تكلم الضب معترفاً برسالته ، وحين كفل الظبية حتى أرسلها الأعرابي رجعت تعدو حتى أخرجته من الكفالة ، وحين لسعت الحية عقب الصديق في الغار قالت : كنت مشتاقة إليه منذ كذا سنين فلم حجبتني عنه . وأطعم الخلق الكثير من الطعام القليل . ومعجزاته صلى الله عليه وسلم أكثر من أن تحصى خصوصاً في هذا المقام ، فثبت صحة قوله { إنّا أعطيناك الكوثر } قيل : هو القرآن ؛ لأن فوائده عديدة الحصي . وقيل : الإسلام ، أو الشفاعة ، أو رفع الذكر ، أو العلم { وعلمت ما لم تكن تعلم } [ النساء :113 ] ، أو الخلق الحسن { وإنك لعلى خلق عظيم }
[ القلم :4 ] ، وقد يقال : إن هذه السورة مع قصرها معجزة من وجوه لما فيها من الإخبار بالغيوب ، وهو الوعد بكثرة الأتباع والأولاد ، وزوال الفقر حتى نحر مائة بدنة في يوم واحد وقد وقع مطابقاً ، ولأنهم عجزوا عن معارضتها مع قصرها ، فإنها أقصر سورة من القرآن .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.