غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{إِنَّآ أَعۡطَيۡنَٰكَ ٱلۡكَوۡثَرَ} (1)

مقدمة السورة:

( سورة الكوثر مكية ، وعن قتادة : مدنية . حروفها اثنان وأربعون . كلمها عشر . آياتها ثلاث ) .

1

التفسير : هذه السورة كالمقابلة للسورة المتقدمة ؛ لأن تلك مثال لكون الإنسان في خسر ، وهذه للمستثنين منهم ؛ بل لأشرفهم وأفضلهم وهو النبي صلى الله عليه وسلم ؛ بل له ولشانيه ، فكأنها مثال للفريقين جميعاً . هذا وجه إجمالي ، وأما الوجه التفصيلي فقوله : { إنا أعطيناك الكوثر } أي الخير الكثير ، وقع في مقابلة الدع والمنع من الإطعام .

وقوله { فصل } أي دم على الصلاة ، وقع بإزاء قوله { عن صلاتهم ساهون } [ الماعون :5 ] وقوله { لربك } مكان قوله { يراءون } [ الماعون :6 ] وقوله { وانحر } والمراد به التصدق بلحوم الأضاحي بحذاء قوله { ويمنعون الماعون } [ الماعون :7 ] .

ثم ختم السورة بقوله { إن شانئك هو الأبتر } أي الذي تضاد طريقته طريقتك سيزول عنه ما يفتخر به من المال والجاه والأحساب والأنساب ، ويبقى لك ولمتابعيك الذكر الجميل في الدنيا والثواب الجزيل في العقبى ، بل يدوم لك النسب الصوري بسبب أولادك الشرفاء ، والنسب المعنوي بواسطة أتباعك العلماء .

ثم في الآية أصناف من المبالغة منها : التصدير ب " إن " ومنها الجمع المفيد للتعظيم ، ومنها لفظ الإعطاء دون الإيتاء ، ففي الإعطاء دليل التمليك دون الإيتاء ، ولهذا حين قال { ولقد آتيناك سبعاً من المثاني }

[ الحجر :7 ] كان أمته مشاركين له في فوائدها ولم يكن له منعهم منها . ومنها صيغة المضي الدالة على التحقيق في وعد الله تعالى كما هي عادة القرآن ، ومنها لفظ الكوثر ، وهو مبالغة في الكثرة بزيادة الواو كجدول ، فيشمل خيرات الدنيا والآخرة ، إلا أن أكثر المفسرين خصوه فحملوه على أنه اسم نهر في الجنة . عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم : " رأيت نهراً في الجنة حافتاه قباب اللؤلؤ المجوف ، فضربت بيدي إلى مجرى الماء فإذا أنا بمسك أذفر ، فقلت : ما هذا ؟ فقيل : هو الكوثر الذي أعطاك الله " ، وفي رواية : " ماؤه أشد بياضاً من اللبن ، وأحلى من العسل . فيه طيور خضر لها أعناق كأعناق البخت ، من أكل من ذلك الطير وشرب من ذلك الماء فاز بالرضوان " . قال أهل المعنى : ولعله إنما سمى كوثراً ؛ لأنه أكثر أنهار الجنة ماء وخيراً ، أو لأن أنهار الجنة تتفجر منه ، كما روي أنه ما في الجنة بستان إلا وفيه من الكوثر نهر جار ، أو لكثرة شاربيه . وقد يقال : إن الكوثر حوض في الجنة على ما ورد في الأخبار ، فلعل منبعه حوض ومنه تسيل الأنهار .

والقول الثالث : إن الكوثر أولاده ؛ لأن هذه السورة نزلت رداً على من زعم أنه الأبتر كما يجيء ، والمعنى أنه يعطيه بفاطمة نسلاً يبقون على مر الزمان . فانظر كم قتل من أهل البيت ثم العالم مملوء منهم ، ولم يبق من بني أمية في الدنيا أحد يعبأ به ، والعلماء الأكابر منهم لا حد ولا حصر لهم ، منهم الباقر والصادق والكاظم والرضي والتقي والنقي والزكي وغيرهم .

القول الرابع : الكوثر علماء أمته ؛ لأنهم كأنبياء بني إسرائيل ، واختلافهم في فروع الشريعة رحمة كما كان اختلاف الأنبياء في الفروع رحمة مع اتفاقهم على الأصول ، فالتوحيد والنبوة والمعاد كأصول الشجرة ، وأديان الأنبياء كشعبها الكبار ، والمذاهب كالأغصان المتفرعة عن الشعب .

الخامس : الكوثر النبوة ، ولا يخفى ما فيها من الخير الكثير ؛ لأنها ثانية رتبة الربوبية ، ولهذا كانت طاعة الرسول طاعة الله ، ثم لرسولنا الحظ الأوفر من هذه الفضيلة ؛ لأنه المذكور قبل سائر الأنبياء ، والمبعوث بعدهم ، ثم هو مبعوث إلى الثقلين ، ولن يصير شرعه منسوخاً ، وله كل معجزة كانت لغيره من الأنبياء المشهورين ، وكتاب آدم كان كلمات كما قال { فتلقى آدم من ربه كلمات } [ البقرة :37 ] ، وكتاب إبراهيم وموسى كان كلمات وصحفاً { وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات } [ البقرة :124 ] ، و { صحف إبراهيم وموسى } [ الأعلى :19 ] ، وكتاب محمد صلى الله عليه وسلم مهيمن على الكل كما قال { ومهيمنا عليه } [ المائدة : 48 ] ، وإن آدم عليه السلام تحدى بالكلمات والأسماء { أنبئوني بأسماء هؤلاء } [ البقرة :31 ] ، ومحمد صلى الله عليه وسلم إنما تحدى بالمنظوم { قل لئن اجتمعت الإنس والجن } [ الإسراء :88 ] الآية . وأما نوح عليه السلام فإن الله أكرمه بأن أمسك سفينته على الماء ، وفي حق محمد صلى الله عليه وسلم وقف الحجر على الماء . وروي أنه صلى الله عليه وسلم كان على شط ماء ومعه عكرمة بن أبي جهل فقال : إن كنت صادقاً فادع ذلك الحجر الذي هو في الجانب فليسبح ولا يغرق ، فأشار الرسول صلى الله عليه وسلم إليه فانقلع الحجر من مكانه وسبح حتى صار بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم ، وشهد له بالرسالة . فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : يكفيك هذا ؟ قال : حتى يرجع إلى مكانه . فأمره النبي صلى الله عليه وسلم فرجع إلى مكانه . وأكرم إبراهيم فجعل النار برداً وسلاماً عليه . وروى محمد بن حاطب قال : كنت طفلاً فانصب القدر من على النار علي ، فاحترق جلدي كله ، فحملتني أمي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت : هذا ابن حاطب احترق كما ترى ، فتفل رسول الله صلى الله عليه وسلم على جلدي ، ومسح بيده على المحترق منه ، وقال صلى الله عليه وسلم : أذهب البأس رب الناس . فصرت صحيحاً لا بأس بي . وأكرم موسى بفلق البحر في الأرض ، وأكرم محمداًً صلى الله عليه وسلم ففلق له القمر فوق السماء . وفجر له الماء من الحجر ، وفجر لمحمد صلى الله عليه وسلم أصابعه عيوناً ، وأكرم موسى بتظليل الغمام في زمان نبوته ، وأكرم محمداً صلى الله عليه وسلم بذلك قبل ظهور نبوته . وأكرم موسى عليه السلام باليد البيضاء ، وأكرم محمداً صلى الله عليه وسلم بالقرآن العظيم الذي هو نور من الله برهان . وقلب الله عصى موسى ثعباناً ، ولما أراد أبو جهل أن يرميه بالحجر رأى على كتفيه ثعبانين فانصرف مرعوباً . وسبحت الجبال مع داود عليه السلام ، وسبحت الأحجار في يده ويد أصحابه . وكان داود عليه السلام إذا مسح الحديد لان ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم حين مسح الشاة الجدباء درت . وأكرم داود بالطير المحشورة ، ومحمداً صلى الله عليه وسلم بالبراق . وأكرم عيسى بإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص ، وأكرمه صلى الله عليه وسلم بإحياء الشاة المسمومة وبتكلمها أنها مسمومة . وروي أن معاذ بن عفراء كانت له امرأة برصاء فشكت ذلك إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فمسح عليها بغصن فأذهب الله عنها البرص ، وحين سقطت حدقة رجل يوم أحد رفعها رسول الله صلى الله عليه وسلم فردها إلى مكانها . وكان عيسى يخبر بما في بيوت الناس ، والرسول صلى الله عليه وسلم عرف ما أخفته أم الفضل فأسلم العباس لذلك . ورد الشمس لسليمان مرة ، والرسول كان نائماً ورأسه في حجر علي عليه السلام فانتبه وقد غربت الشمس فردّها حتى صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وردها مرة أخرى لعلي عليه السلام فصلى العصر لوقته . وعلم سليمان منطق الطير ، وفعل ذلك في حق محمد صلى الله عليه وسلم ، روي أن طائراً فجع بولده فجعل يرفرف على رأسه ويكلمه فقال : أيكم فجع هذه بولدها ؟ فقال رجل : أنا فقال : اردد ولدها ، وكلام الذئب والناقة معه مشهور . وأكرم سليمان بمسير غدو شهر ، وأكرمه بالمسير إلى بيت المقدس في ساعة ، وكان له صلى الله عليه وسلم يعفور يرسله إلى من يريد فيجيء به ، وأرسل معاذاً إلى بعض النواحي فلما وصل إلى المفازة فإذا أسد جاثٍ فهاله ذلك ولم يستجرىء أن يرجع فتقدم وقال : إني رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم فتبصبص . وكما انقاد الجن لسليمان انقادوا لمحمد صلى الله عليه وسلم . وحين جاء الأعرابي بالضب تكلم الضب معترفاً برسالته ، وحين كفل الظبية حتى أرسلها الأعرابي رجعت تعدو حتى أخرجته من الكفالة ، وحين لسعت الحية عقب الصديق في الغار قالت : كنت مشتاقة إليه منذ كذا سنين فلم حجبتني عنه . وأطعم الخلق الكثير من الطعام القليل . ومعجزاته صلى الله عليه وسلم أكثر من أن تحصى خصوصاً في هذا المقام ، فثبت صحة قوله { إنّا أعطيناك الكوثر } قيل : هو القرآن ؛ لأن فوائده عديدة الحصي . وقيل : الإسلام ، أو الشفاعة ، أو رفع الذكر ، أو العلم { وعلمت ما لم تكن تعلم } [ النساء :113 ] ، أو الخلق الحسن { وإنك لعلى خلق عظيم }

[ القلم :4 ] ، وقد يقال : إن هذه السورة مع قصرها معجزة من وجوه لما فيها من الإخبار بالغيوب ، وهو الوعد بكثرة الأتباع والأولاد ، وزوال الفقر حتى نحر مائة بدنة في يوم واحد وقد وقع مطابقاً ، ولأنهم عجزوا عن معارضتها مع قصرها ، فإنها أقصر سورة من القرآن .

/خ3