فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{إِنَّآ أَعۡطَيۡنَٰكَ ٱلۡكَوۡثَرَ} (1)

مقدمة السورة:

سورة الكوثر

وتسمى سورة النحر ، وهي ثلاث آيات ، وهي مكية في قول ابن عباس والكلبي ومقاتل ، ومدنية في قول الحسن وعكرمة ومجاهد وقتادة . وعن ابن عباس وابن الزبير وعائشة : نزلت سورة الكوثر بمكة .

بسم الله الرحمان الرحيم

{ إن أعطيناك الكوثر } قرأ الجمهور هكذا ، وقرأ الحسن وابن محيصن وطلحة والزعفراني ( أنطيناك ) بالنون ، قيل : هي لغة العرب العاربة . أي قضينا لك وخصصناك به ، فهو لك ولأمتك من قبل وجودك ، وإن لم تستول عليه وتتصرف فيه إلا في القيامة ، فالعطاء ناجز ، والتمكن والاستيلاء مستقبل . والكوثر فوعل من الكثرة ، وصف به للمبالغة في الكثرة ، مثل النوفل من النفل ، والجوهر من الجهر ، والعرب تسمي كل شيء كثير في العدد أو القدر أو الخطر كوثرا .

فالمعنى على هذا إنا أعطيناك يا محمد الخير الكثير البالغ في الكثرة إلى الغاية ، وذهب أكثر المفسرين -كما حكاه الواحدي- إلى أن الكوثر نهر في الجنة ، وقيل : هو حوض النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الموقف ، قاله عطاء . وقال عكرمة : الكوثر النبوة . وقال الحسن : هو القرآن . وقال الحسن بن الفضل : هو تفسير القرآن ، وتخفيف الشرائع . وقال أبو بكر بن عياش : هو كثرة الأصحاب والأمة . وقال ابن كيسان : هو الإيثار . وقيل : هو الإسلام . وقيل : رفعة الذكر . وقيل : نور القلب . وقيل : الشفاعة . وقيل : المعجزات . وقيل : إجابة الدعوة . وقيل : لا إله إلا الله . وقيل : الفقه في الدين . وقيل : الصلوات الخمس . وسيأتي بيان ما هو الحق .

وعن أنس قال : أغفى رسول الله إغفاءة فرفع رأسه متبسما فقال : " إنه أنزل عليّ آنفا سورة فقرأ بسم الله الرحمان الرحيم { إنا أعطيناك الكوثر } ، حتى ختمها . قال : هل تدرون ما الكوثر ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : هو نهر أعطانيه ربي في الجنة ، عليه خير كثير ، ترد عليه أمتي يوم القيامة ، آنيته كعدد الكواكب ، يختلج العبد منهم فأقول : يا رب إنه من أمتي ، فيقال : إنك لا تدري ما أحدث بعدك " أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في سننه ، وأخرجه أيضا مسلم في صحيحه{[1743]} .

وعن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : " دخلت الجنة فإذا أنا بنهر حافتاه خيام اللؤلؤ ، فضربت بيدي إلى ما يجري فيه الماء فإذا مسك أذفر ، قلت : ما هذا يا جبريل ؟ " قال : هذا الكوثر الذي أعطاكه الله " أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما{[1744]} .

وقد روي عن أنس من طرق كلها مصرحة بأن الكوثر هو النهر الذي في الجنة . وعن عائشة قالت : هو نهر أعطيه نبيكم صلى الله عليه وآله وسلم في بطنان الجنة . وعن ابن عباس أنه نهر في الجنة . وعن حذيفة قال : " نهر في الجنة " ، وحسن السيوطي إسناده .

وعن أسامة بن زيد مرفوعا أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : " إنك أعطيت نهرا في الجنة يدعى الكوثر . فقال : أجل ، وأرضه ياقوت ومرجان وزبرجد ولؤلؤ ، هو نهر من أنهار الجنة أعطانيه الله " أخرجه ابن مردويه .

وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلا قال : يا رسول الله ، ما الكوثر ؟ قال : " هو نهر من أنهار الجنة أعطانيه الله " أخرجه ابن مردويه .

فهذه الأحاديث تدل على أن الكوثر هو النهر الذي في الجنة ، فيتعين المصير إليها ، وعدم التعويل على غيرها ، وإن كان معنى الكوثر هو الخير الكثير في لغة العرب ، فمن فسره بما هو أعم مما ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فهو تفسير ناظر إلى المعنى اللغوي كما أخرج أحمد والترمذي وصححه وابن ماجة وغيرهم عن عطاء بن السائب قال : قال محارب بن دثار : قال سعيد بن عبيد في الكوثر : قلت : حدثنا عن ابن عباس أنه قال : هو الخير الكثير ، فقال : صدق ، إنه للخير الكثير ، ولكن حدثنا ابن عمر قال : نزلت { إنا أعطيناك الكوثر } فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : " الكوثر نهر في الجنة ، حافتاه من ذهب يجري على الدر والياقوت ، تربته أطيب من المسك ، وماؤه أشد بياضا من اللبن ، وأحلى من العسل " .

وأخرج البخاري وابن جرير والحاكم من طريق أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال في الكوثر : هو الخير الذي أعطاه الله إياه . قال أبو بشر : قلت لسعيد بن جبير : فإن ناسا يزعمون أنه نهر في الجنة . قال : النهر الذي في الجنة من الخير الذي أعطاه الله إياه .

وهذا التفسير من حبر الأمة ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ناظر إلى المعنى اللغوي كما عرفناك ، ولكن رسول الله صلى عليه وآله وسلم قد فسره فيما صح عنه أنه النهر الذي في الجنة ، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل .

قال القرطبي أصح هذه الأقوال أنه النهر أو الحوض ؛ لأنه ثابت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نصا في الكوثر .

قال القاضي عياض : أحاديث الحوض صحيحة ، والإيمان به فرض ، والتصديق به من الإيمان ، وهو على ظاهره عند أهل السنة والجماعة لا يتأول ولا يختلف فيه ، وحديثه متواتر النقل ، رواه خلائق من الصحابة ، وقد جمع ذلك كله البيهقي في كتابه البعث والنشور بأسانيده وطرقه المتكاثرة .

وذهب صاحب القوت وغيره إلى أن حوض النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما هو بعد الصراط ، والصحيح أن له صلى الله عليه وآله وسلم حوضين ، وكلاهما يسمى كوثرا .

واختلف في الميزان والحوض أيهما قبل الآخر ، فقيل : الميزان ، وقيل : الحوض . قال أبو الحسن الفاسي : والصحيح أن الحوض قبل .

قلت : والمعنى يقتضيه ، فإن الناس يخرجون من قبورهم عطاشا ، فيقدم قبل الصراط والميزان . والله أعلم .


[1743]:رواه البخاري في "صحيحه" بهذا اللفظ في كتاب الرقاق، باب الحوض 11/ 412 وشك الراوي في آخره، وهو (هدبة بن خالد) في رواية، "فإذا طينه أو طيبه" قال الحافظ ابن حجر في "الفتح" 11/ 412: أراد بذلك أن أبا الوليد لم يشك في روايته، أنه بالنون، وهو المعتمد. قال: وتقدم في تفسير سورة الكوثر من طريق شيبان عن قتادة: فأهوى الملك بيده فاستخرج من طينه مسكنا أذفر. والأذفر: طيب الريح.
[1744]:أي ليلة الإسراء، كما في رواية البخاري في التفسير 8/ 562: عن أنس رضي الله عنه قال: لما عرج بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء قال: "أتيت على نهر حافتاه قباب اللؤلؤ مجوف، فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر".