السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{إِنَّآ أَعۡطَيۡنَٰكَ ٱلۡكَوۡثَرَ} (1)

مقدمة السورة:

وتسمى سورة النحر ، مكية في قول ابن عباس رضي الله عنهما والكلبي ومقاتل ، ومدنية في قول الحسن وعكرمة ومجاهد وقتادة ، وهي ثلاث آيات ، وعشر كلمات ، واثنان وأربعون حرفاً .

{ بسم الله } الذي لا حد لفائض فضله { الرحمن } الذي شمل الخلائق بجوده فلا رادّ لأمره { الرحيم } الذي خص حزبه بالاعتصام بحبله .

وقوله تعالى : { إنا } أي : بما لنا من العظمة { أعطيناك } أي : خوّلناك مع التمكين العظيم يا أشرف الخلق { الكوثر } أي : نهراً في الجنة هو حوضه صلى الله عليه وسلم ، ترد عليه أمّته ، لما روي عن أنس أنه قال : «بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم بين أظهرنا إذ غفا إغفاءة ثم رفع رأسه مبتسماً ، فقلنا : ما أضحكك يا رسول الله ؟ قال : أنزل عليّ آنفاً سورة فقرأ { بسم الله الرحمن الرحيم إنا أعطيناك الكوثر } إلى آخرها ، ثم قال : أتدرون ما الكوثر ؟ قلنا : الله ورسوله أعلم ؟ قال : فإنه نهر وعدنيه ربي ، خير كثير ، هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة ، آنيته عدد النجوم ، فيختلج العبد منهم فأقول : رب إنه من أمّتي ، فيقول : ما تدري ما أحدث بعدك » . وعن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «الكوثر نهر في الجنة حافتاه من ذهب ، ومجراه على الدر والياقوت ، تربته أطيب من المسك ، وماؤه أحلى من العسل ، وأبيض من الثلج » . وعن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«دخلت الجنة فإذا أنا بنهر يجري ، بياضه بياض اللبن ، وأحلى من العسل ، وحافتاه خيام الدر ، فضربت بيدي فإذا الثرى مسك أذفر ، فقلت لجبريل : ما هذا ؟ قال : الكوثر أعطاكه الله تعالى » . وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«حوضي مسيرة شهر ، ماؤه أبيض من اللبن ، وريحه أطيب من المسك ، وكيزانه كنجوم السماء ، من شرب منها لا يظمأ أبداً » .

وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«أنا فرطكم على الحوض ، وليرفعن إلىّ رجال منكم حتى إذا أهويت إليهم لأناولهم اختلجوا دوني ، فأقول : أي رب أصحابي ، فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك » . وعن ثوبان أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن عرضه فقال : «من مقامي إلى عمان » ، وسئل عن شرابه فقال : «أشدّ بياضاً من اللبن ، وأحلى من العسل ، فيه ميزابان يمدانه من الجنة : أحدهما من ذهب ، والآخر من ورق » . و عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «يرد عليّ يوم القيامة رهطان من أصحابي » ، أو قال : «من أمتي ، فيجلون عن الحوض فأقول : أي رب أصحابي ، فيقول : إنه لا علم لك بما أحدثوا بعدك . كأنهم ارتدّوا على أدبارهم القهقرى » .

ولمسلم أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «ترد عليّ أمّتي الحوض ، وأنا أذود الناس عنه كما يذود الرجل إبل الرجل عن إبله ، قالوا : يا نبيّ الله تعرفنا ؟ قال : نعم ، لكم سيما ليست لأحد غيركم ، تردون عليّ غرّاً محجلين من آثار الوضوء ، وليصدنّ عني طائفة منكم فلا يصلون ، فأقول : يا رب هؤلاء أصحابي . فيجيبني فيقول : وهل تدري ما أحدثوا بعدك ؟ » . وأحاديث الحوض كثيرة ، وفيما ذكرناه كفاية لأولي الألباب ، فنسأل الله تعالى أن يروينا منه نحن وأحبابنا ، ويدخلنا وإياهم الجنة بغير حساب .

قال القاضي عياض : أحاديث الحوض صحيحة ، والإيمان به فرض ، والتصديق به من الإيمان . وقال ابن عادل : وهو على ظاهره عند أهل السنة والجماعة لا يتأوّل ولا يختلف فيه ، وحديثه متواتر النقل رواه خلائق من الصحابة اه . وقيل : الكوثر القرآن العظيم . وقيل : هو النبوّة والكتاب والحكمة . وقيل : هو كثرة أتباعه . وقيل : الكوثر الخير الكثير الذي أعطاه الله تعالى إياه . وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما : الكوثر : الخير الكثير . قال أبو بشر : قلت لسعيد بن جبير : إن ناساً يزعمون أن الكوثر نهر في الجنة ؟ فقال سعيد : النهر الذي في الجنة من الخير الكثير الذي أعطاه الله تعالى إياه .

وأصل الكوثر فوعل من الكثرة ، والعرب تسمي كل شيء كثير في العدد أو كثير القدر والخطر كوثراً ، قيل لأعرابية رجع ابنها من السفر : بم آب ابنك ، قالت : آب بكوثر ، وقال الشاعر :

وأنت كثير يا ابن مروان طيب *** وكان أبوك ابن العقائل كوثرا

وقيل : الكوثر الفضائل الكثيرة التي فضلها على جميع الخلائق .

تنبيه : لا منافاة بين هذه الأقوال كلها ، فقد أعطيها النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وأعطي صلى الله عليه وسلم النبوّة ، والحكمة ، والعلم ، والشفاعة ، والحوض المورود ، والمقام المحمود ، وكثرة الاتباع ، وإظهاره على الأديان كلها ، والنصر على الأعداء ، وكثرة الفتوح في زمنه إلى يوم القيامة ، وأولى الأقاويل في الكوثر -وهو الذي عليه جمهور العلماء- أنه نهر في الجنة .