التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{قُلۡ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَٰتِ ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ تَدۡعُونَهُۥ تَضَرُّعٗا وَخُفۡيَةٗ لَّئِنۡ أَنجَىٰنَا مِنۡ هَٰذِهِۦ لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّـٰكِرِينَ} (63)

استئناف ابتدائي . ولمَّا كان هذا الكلام تهديداً وافتتح بالاستفهام التقريري تعيَّن أنّ المقصود بضمائر الخطاب المشركون دون المسلمين . وأصرح من ذلك قوله : { ثم أنتم تشركون } .

وإعادة الأمر بالقول للاهتمام ، كما تقدّم بيانه عند قوله تعالى : { قل أرأيتِكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة } [ الأنعام : 40 ] الآية . والاستفهام مستعمل في التقرير والإلجاء ، لكون ذلك لا ينازعون فيه بحسب عقائد الشرك .

والظلمات قيل على حقيقتها ، فيتعيَّن تقدير مضاف ، أي من إضرار ظلمات البرّ والبحر ، فظلمات البرّ ظلمة الليل التي يلتبس فيها الطريق للسائر والتي يخشى فيها العدوّ للسائر وللقاطن ، أي ما يحصل في ظلمات البرّ من الآفات . وظلمات البحر يخشى فيها الغرق والضلال والعدوّ . وقيل : أطلقت الظلمات مجازاً على المخاوف الحاصلة في البرّ والبحر ، كما يقال : يوم مُظلم إذا حصلت فيه شدائد . ومن أمثال العرب ( رأى الكواكب مُظْهِراً ) ، أي أظلم عليه يومه إظلاماً في عينيه لما لاقاه من الشدائد حتَّى صار كأنَّه ليل يرى فيه الكواكب . والجمع على الوجهين روعي فيه تعدّد أنواع ما يعرض من الظلمات ، على أنَّنا قدّمنا في أوّل السورة أنّ الجمع في لفظ الظلمات جَرى على قانون الفصاحة . وجملة : { تدعونه } حال من الضمير المنصوب في { يُنَجِّكُمْ } .

وقرىء { من ينجِّيكم } بالتشديد لنافع ، وابن كثير ، وابن عامر ، وأبي عمرو ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي ، وأبي جعفر ، وخلف . وقرأه يعقوب بالتخفيف .

والتضرّع : التذلّل ، كما تقدّم في قوله : { لعلَّهم يتضرّعون } في هذه السورة [ 42 ] . وهو منصوب على الحال مؤوّلاً باسم الفاعل . والخفية بضم الخاء وكسرها ضد الجهر . وقرأه الجمهور بضم الخاء . وقرأه أبو بكر عن عاصم بكسر الخاء وهو لغة مثل أسوة وإسوة . وعطف خفية } على { تضرّعاً } إمَّا عطف الحال على الحال كما تعطف الأوصاف فيكون مصدراً مؤوّلاً باسم الفاعل ، وإما أن يكون عطف المفعول المطلق على الحال على أنَّه مبيّن لنوع الدعاء ، أي تدعونه في الظلمات مخفين أصواتكم خشية انتباه العدوّ من النّاس أو الوحوش .

وجملة { لئِن أنجيتنا } في محلّ نصب بقول محذوف ، أي قائلين . وحذف القول كثير في القرآن إذا دلَّت عليه قرينة الكلام . واللام في { لئن } الموّطئة للقسم ، واللام في { لَنكوننّ } لام جواب القسم . وجيء بضمير الجمع إمَّا لأنّ المقصود حكاية اجتماعهم على الدعاء بحيث يدعو كلّ واحد عن نفسه وعن رفاقه . وإمَّا أريد التعبير عن الجمع باعتبار التوزيع مثل : ركِبَ القوم خَيْلَهم ، وإنَّما ركب كلّ واحد فَرَساً .

وقرأ الجمهور { أنجيتنا } بمثناة تحتية بعد الجيم ومثناة فوقية بعد التحتية . وقرأه عاصم ، وحمزة ، والكسائي وخلف { أنجانا } بألف بعد الجيم والضمير عائد إلى { مَنْ } في قوله : { قل من ينجيّكم } .

والإشارة ب { هذه } إلى الظلمة المشاهدة للمتكلِّم باعتبار ما ينشأ عنها ، أو باعتبار المعنى المجازي وهو الشدّة ، أو إلى حالة يعبّر عنها بلفظ مؤنّث مثل الشدّة أو الورطة أو الربْقة .

والشاكر هو الذي يراعي نعمة المنعم فيحسن معاملته كلّما وجد لذلك سبيلاً . وقد كان العرب يرون الشكر حقَّاً عظيماً ويعيّرون من يكفر النعمة .

وقولهم : { من الشاكرين } أبلغ من أن يقال : لنكوننَّ شاكرين ، كما تقدّم عند قوله تعالى : { لقد ضللت إذن وما أنا من المهتدين } [ لأنعام : 56 ] .