المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{أَوَعَجِبۡتُمۡ أَن جَآءَكُمۡ ذِكۡرٞ مِّن رَّبِّكُمۡ عَلَىٰ رَجُلٖ مِّنكُمۡ لِيُنذِرَكُمۡۚ وَٱذۡكُرُوٓاْ إِذۡ جَعَلَكُمۡ خُلَفَآءَ مِنۢ بَعۡدِ قَوۡمِ نُوحٖ وَزَادَكُمۡ فِي ٱلۡخَلۡقِ بَصۜۡطَةٗۖ فَٱذۡكُرُوٓاْ ءَالَآءَ ٱللَّهِ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ} (69)

قد تقدم القول في مثل { أو عجبتم } و «الذكر » لفظ عام للمواعظ والأوامر والنواهي ، وقوله تعالى : { اذكروا } الآية ، تعديد للنعم عليهم ، و { خلفاء } جمع خليف كظريف وظرفاء ، وخليفة جمع خلائف ، والعرب تقول خليفة وخليف ، وأنشد أبو علي :

فإن يزل زائل يوجد خليفته*** وما خليف أبي وهب بموجود

قال السدي وابن إسحاق : والمعنى جعلكم سكان الأرض بعد قوم نوح ، وقوله : { وزادكم في الخلق بصطة } أي في الخلقة ، والبصطة الكمال في الطول والعرض ، وقيل زادكم على أهل عصركم ، قال الطبري : المعنى زادكم على قوم نوح وقاله قتادة .

قال القاضي أبو محمد : واللفظ يقتضي أن الزيادة هي على جميع العالم ، وهو الذي يقتضي ما يذكر عنهم ، وروي أن طول الرجل منهم كان مائة ذراع وطول أقصرهم ستون ونحو هذا . و «الآلاء » : جمع «إلا » على مثال معي ، وأنشد الزجّاج : [ للأعشى ]

أبيض لا يرهب الهزال ولا*** يقطع رحماً ولا يخون إلى

وقيل واحد الآلاء «ألا » على مثال قفى وقيل واحدها «إلى » على مثال حسى وهي النعمة والمنة ، و { تفلحون } : معناه تدركون البغية والآمال ، قاله الطبري وعاد هؤلاء فيما حدث ابن إسحاق من ولد عاد بن إرم ابن عوص بن سام بن نوح ، وكانت مساكنهم الشحر من أرض اليمن وما والى حضرموت إلى عمان ، وقال السدي وكانوا بالأحقاف وهي الرمال ، وكانت بلادهم أخصب بلاد فردها الله صحارى ، وقال علي بن أبي طالب : إن قبر هود عليه السلام هنالك في كثيب أحمر يخالطه مدرة ذات أراك وسدر ، وكانوا قد فشوا في جميع الأرض وملكوا كثيراً بقوتهم وعددهم وظلموا الناس ، وكانوا ثلاث عشرة قبيلة ، وكانوا أصحاب أوثان منها ما يسمى صداء ومنها صمودا ومنها الهبا فبعث الله إليهم هوداً من أفضلهم وأوسطهم نسباً فدعاهم إلى توحيد الله وإلى ترك الظلم .

قال ابن إسحاق : لم يأمرهم فيما يذكر بغير ذلك فكذبوه وعتوا واستمر ذلك منهم إلى أن أراد الله إنفاذ أمره أمسك عنهم المطر ثلاث سنين ، فشقوا بذلك وكان الناس في ذلك الزمان إذا أهمهم أمر فزعوا إلى المسجد الحرام بمكة فدعوا الله فيه تعظيماً له مؤمنهم وكافرهم ، وأهل مكة يومئذ العماليق وسيدهم رجل يسمى معاوية بن بكر ، فاجتمعت عاد على أن تجهز منهم وفداً إلى مكة يستسقون الله لهم ، فبعثوا قيل بن عير ولقيم بن هزال وعثيل بن ضد بن عاد الأكبر ، ومرثد بن سعد بن عفير ، وكان هذا مؤمناً يكتم إيمانه وُجْلُهمة بن الخبيري في سبعين رجلاً من قومهم ، فلما قدموا مكة نزلواعلى معاوية بن بكر وهو بظاهر مكة خارجاً من الحرم فأنزلهم وأقاموا عنده شهراً يشربون الخمر وتغنيهم الجرادتان قينتان لمعاوية ، ولما رأى معاوية إقامتهم وقد بعثهم عاد للغوث أشفق على عاد وكان ابن أختهم كلهدة بن الخبيرى أخت جلهمة ، وقال هلك أخوالي وشق عليه أن يأمر أضيافه بالانصراف عنه فشكا ذلك إلى قينة فقالت له اصنع شعراً نغني به عسى أن ننبههم فقال : [ الوافر ]

ألا يا قيل ويحك قم َفَهْيِنمْ*** لعل الله يسقينا غماما

فيسقي أرض عاد إن عاداً*** قد أمسوا لا يبينون الكلاما

من العطش الشديد فليس نرجو*** به الشيخ الكبير ولا الغلاما

وقد كانت نساؤهم بخير*** فقد أمست نساؤهم عياما

وإن الوحش تأتيهم جهاراً*** ولا تخشى لعاديَّ سهاما

وأنتمْ ها هنا فيما اشتهيتم*** نهارَكمُ وليلكمُ التماما

فَقُبِّحَ وفدُكمْ من وفدِ قَوْمٍ*** ولا لُقُّوا التحيَّةَ والسَّلاما

فغنت به الجرادتان فلما سمعه القوم قال بعضهم يا قوم إنما بعثكم قومكم لما حل بهم فادخلوا هذا الحرم وادعوا لعل الله يغيثهم فخرجوا لذلك فقال لهم مرثد بن سعد : إنكم والله ما تسقون بدعائكم ، ولكنكم إن أطعتم نبيكم وآمنتم به سقيتم ، وأظهر إيمانه يؤمئذ فخالفه الوفد ، وقالوا لمعاوية بن بكر وأبيه بكر : احبسا عنا مرثداً ولا يدخل معنا الحرم ، فإنه قد اتبع هوداً ومضوا إلى مكة فاستسقى قيل بن عير ، وقال : يا إلهنا إن كان هود صالحاً فاسقنا فإنّا قد هلكنا ، فأنشأ الله سحائب ثلاثاً بيضاء وسوداء ، ثم ناداه مناد من السحاب :يا قيل اختر لنفسك وقومك من هذا السحاب ، فقال قيل : قد اخترت السوداء فانها أكثرها ماء ، فنودي : اخترت رماداً رمدداً لا تبقي من عاد أحداً ، لا والداً ولا ولداً ، إلا جعلتهم همداً ، وساق الله السحابة السوداء التي اختارها قيل إلى عاد حتى خرجت عليهم من واد لهم يقال له المغيث ، فلما رأوها قالوا هذا عارض ممطرنا ، حتى عرفت أنها ريح امرأة من عاد يقال لها مهد ، فصاحت وصعقت فلما أفاقت قيل لها ما رأيت ؟ قالت رأيت ريحاً كشهب النار أمامها رجال يقودونها ، فسخرها الله عليهم ثمانية أيام حسوماً وسبع ليال ، والحسوم الدائمة فلم تدع من عاد أحداً إلا هلك ، فاعتزل هود ومن معه من المؤمنين في حظيرة ما يصيبه من الريح إلا ما يلتذ به .

قال القاضي أبو محمد : وهذا قصص وقع في تفسير مطولاً ، وفيه اختلاف فاقتضبت عيون ذلك بحسب الإيجاز وفي خبرهم أن الريح كانت تدمغهم بالحجارة وترفع الظعينة عليها المرأة ، حتى تلقيها في البحر ، وفي خبرهم أن أقوياءهم كان أحدهم يسد بنفسه مهب الريح حتى تغلبه فتلقيه في البحر ، فيقوم آخر مكانه حتى هلك الجميع ، وقال زيد بن أسلم : بلغني أن ضبعاً ربت أولادها في حجاج عين رجل منهم وفي خبرهم ، أن الله بعث لما هلكت عاد طيراً وقيل أسداً فنقلت جيفهم حتى طرحتها في البحر ، فذلك قوله { فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم } في بعض ما روي من شأنهم : أن الريح لم تبعث قط إلا بمكيال إلا يومئذ فإنها تمت على الخزنة فغلبتهم فذلك قوله : { أهلكوا بريح صرصر عاتية } وروي أن هوداً لما هلكت عاد نزل بمن آمن معه إلى مكة فكانوا بها حتى ماتوا ، فالله علم أي ذلك كان .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{أَوَعَجِبۡتُمۡ أَن جَآءَكُمۡ ذِكۡرٞ مِّن رَّبِّكُمۡ عَلَىٰ رَجُلٖ مِّنكُمۡ لِيُنذِرَكُمۡۚ وَٱذۡكُرُوٓاْ إِذۡ جَعَلَكُمۡ خُلَفَآءَ مِنۢ بَعۡدِ قَوۡمِ نُوحٖ وَزَادَكُمۡ فِي ٱلۡخَلۡقِ بَصۜۡطَةٗۖ فَٱذۡكُرُوٓاْ ءَالَآءَ ٱللَّهِ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ} (69)

هذا مماثل قولَ نوح لقومه وقد تقدّم آنفاً سبب المماثلة . وتقدّم من قبل تفسير نظيره .

{ واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِى الخلق بَسْطَةً فاذكروا ءَالآءَ الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } .

يجوز أن يكون قوله : { لينذركم } عطفاً على قوله : { اعبدوا } [ الأعراف : 65 ] ويكونَ ما بينهما اعتراضاً حكي به ما جرى بينه وبين قومه من المحاورة التي قاطعوه بها عقب قوله لهم { اعبدوا الله } [ الأعراف : 65 ] ، فلمّا أتمّ جوابهم عمّا قاطعوا به كلامه عاد إلى دعوته ، فيكون رجوعاً إلى الدّعوى ، ويجوز أن يكون عطفاً على قوله : { أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم } أي : لا تنكروا أن جاءكم ذكر من ربّكم واذكروا نعمته عليكم ، فيكون تكملة للاستدلال ، وإيّاً مّا كان فالمآل واحد ، وانتقل من أمرهم بالتّوحيد إلى تذكيرهم بنعمة الله عليهم التي لا ينكرون أنّها من نعم الله دون غيره ، لأنّ الخلق والأمر لله لا لغيره . تذكيراً من شأنه إيصالهم إلى إفراد الله تعالى بالعبادة . وإنّما أمرهم بالذّكر ( بضمّ الذّال ) لأنّ النّفس تنسى النّعم فتكفر المنعم ، فإذا تذكّرت النّعمة رأتْ حقاً عليها أن تشكر المُنعم ، ولذلك كانت مسألة شكر المنعم من أهمّ مسائل التّكليف ، والاكتفاء بحسنه عقلاً عند المتّكلمين سواء منهم من اكتفى بالحس العقلي ومن لم يكتف به واعتَبر التوقّفَ على الخطاب الشّرعي .

و { إذْ } اسم زمان منصوب على المفعول به ، وليس ظرفاً لعدم استقامة المعنى على الظرفية ، والتّحقيق أن ( إذْ ) لا تلازم الظرفية بل هي ظرف متصرّف ، وهو مختار صاحب « الكشاف » ، والمعنى : اذكروا الوقت الذي ظهرت فيه خلافتكم عن قوم نوح في تعمير الأرض والهيمنة على الأمم ، فإنّ عادا كانوا ذوي قوّة ونعمة عظيمة { وقالوا من أشَدّ منّا قوّة } [ فصلت : 15 ] .

فالخلفاء جمع خليفة وهو الذي يخلف غيره في شيء ، أي يتولى عمل ما كان يعمله الآخَر ، وقد تقدّم عند قوله تعالى : { إنّي جاعل في الأرض خليفة } في سورة البقرة ( 30 ) ، فالمراد : جعلكم خلفاء في تعمير الأرض ، ولما قال : { من بعد قوم نوح } عُلم أنّ المقصود أنّهم خلفاء قوم نوح ، فعادٌ أوّل أمّة اضطلعت بالحضارة بعد الطّوفان ، وكان بنو نوح قد تكاثروا وانتشروا في الأرض ، في أرمينية والموصل والعراق وبلاد العرب ، وكانوا أمماً كثيرة ، أو كانت عاد عظم تلك الأمم وأصحاب السّيادة على سائر الأمم ، وليس المراد أنّهم خلفوا قوم نوح في ديارهم لأنّ منازل عاد غيرُ منازل قوم نوح عند المُؤرّخين ، وهذا التّذكير تصريح بالنّعمة ، وتعريض بالنّذارة والوعيدِ بأنّ قوم نوح إنّما استأصلهم وأبَادَهم عذابٌ من الله على شركهم ، فمن اتبعهم في صنعهم يوشك أن يحلّ به عذاب أيضاً .

و { الخلق } يحتمل أن يكون مصدراً خالصاً ، ويحتمل أن يكون بمعنى اسم المفعول ، وهو يستعمل في المعنيين .

وقوله : { بصطة } ثبت في المصاحف بصاد قبل الطاء وهو مرادف بسطة الذي هو بسين قبل الطاء . ووقع في آيات أخرى . وأهمل الراغب ( بصطة ) الذي بالصاد . وظاهر عبارة القرطبي أنه في هذه الآية بسين وليس كذلك .

والبصطة : الوفرة والسعة في أمر من الآمور .

فإن كان ( الخلق ) بمعنى المصدر فالبصطة الزّيادة في القُوى الجِبلية أي زادهم قوّة في عقولهم وأجسامهم فخلقهم عقلاء أصحاء ، وقد اشتهر عند العرب نسبة العقول الرّاجحة إلى عاد ، ونسبة كمال قوى الأجسام إليهم قال النّابغة :

أحلامُ عاد وأجسام مطهَّرة *** من المعقة والآفات والإثِم

وقال وَدّاك بنُ ثُمَيْل المازتي في « الحماسة » :

وأحلام عادٍ لا يخاف جليسهم *** ولو نَطَقَ العُوّار غَرْبَ لِسان

وقال قيس بن عُبادة :

وأنْ لا يَقولوا غاب قيس وهذه *** سراويل عادّي نمته ثَمُود

وعلى هذه الوجه يكون قوله : { في الخلق } متعلّقاً ب { بصطة } ، وإن كان الخلق بمعنى النّاس فالمعنى : وزادكم بصطة في النّاس بأن جعلكم أفضل منهم فيما تتفاضل به الأمم من الأمور كلّها ، فيشمل رجحان العقول وقوّة الأجسام وسلامتها من العاهات والآفات وقوّة البأس ، وقَد نُسبت الدّروع إلى عاد فيقال لها : العاديّة ، وكذلك السّيوف العاديّة ، وقد قال الله تعالى حكاية عنهم : { وقالوا مَن أشد منّا قوّة } [ فصلت : 15 ] وحكَى عن هود أنّه قال لهم : { وتتّخذون مصانع لعلّكم تخلدون وإذا بطشتم بطشتم جبّارين فاتّقوا الله وأطيعون واتّقوا الذي أمدّكم بما تعلمون أمَدّكم بأنعام وبنين وجنّاتٍ وعيون } [ الشعراء : 129 134 ] وعلى هذا الوجه يكون قوله : { في الخلق } ظرفاً مستقراً في موضع الحال من ضمير المخاطبين .

والفاء في قوله : { فاذكروا آلاء الله } فصيحة ، أي : إن ذكرتم وقت جَعَلَكَم اللَّهُ خلفاء في الأرض ووقتَ زادكم بصطة فاذكروا نعمه الكثيرة تفصيلاً ، فالكلام جاء على طريقه القيَاس من الاستدلال بالجزئي على إثبات حكم كلي ، فإنّه ذكرهم بنعمة واضحة وهي كونهم خلفاءَ ونِعَمٍ مُجملة وهي زيادة بصطتهم ، ثمّ ذكَّرهم بقية النّعم بلفظ العموم وهو الجمع المضاف .

والآلاء جمع ( إلى ) ، والإلَى : النّعمة ، وهذا مثل جمع عِنَب على أعْنَاب ، ونظيره جمع إنى بالنّون ، وهو الوقت ، على آناء قال تعالى : { غير ناظرين إناهُ } [ الأحزاب : 53 ] أي وقته ، وقال { ومن آناء اللّيل فسبِّح } [ طه : 130 ] .

ورتب على ذكر نعم الله رجاء أن يفلحوا لأنّ ذكر النّعم يؤدّي إلى تكرير شكر المنعم ، فيحمِل المنعم عليه على مقابلة النّعم بالطّاعة .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{أَوَعَجِبۡتُمۡ أَن جَآءَكُمۡ ذِكۡرٞ مِّن رَّبِّكُمۡ عَلَىٰ رَجُلٖ مِّنكُمۡ لِيُنذِرَكُمۡۚ وَٱذۡكُرُوٓاْ إِذۡ جَعَلَكُمۡ خُلَفَآءَ مِنۢ بَعۡدِ قَوۡمِ نُوحٖ وَزَادَكُمۡ فِي ٱلۡخَلۡقِ بَصۜۡطَةٗۖ فَٱذۡكُرُوٓاْ ءَالَآءَ ٱللَّهِ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ} (69)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

فقال الكبراء للضعفاء: ما هذا إلا بشر مثلكم، أفتتبعونه؟ فرد عليهم هود: {أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم}، يعني بيان من ربكم، {على رجل منكم}، يعني نفسه، {لينذركم} العذاب في الدنيا، {واذكروا إذ جعلكم خلفاء} في الأرض، {من بعد} هلاك {قوم نوح وزادكم في الخلق بصطة} على غيركم... {فاذكروا آلاء الله} يعني نعم الله فوحدوه، {لعلكم}، يعني لكي {تفلحون} ولا تعبدوا غيره.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

"أوَ عَجِبْتُمْ أنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبّكُمْ على رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ" يقول: أَوَ عجبتم أن أنزل الله وحيه بتذكيركم وعظتكم على ما أنتم عليه مقيمون من الضلالة، على رجل منكم، لينذركم بأس الله ويخوّفكم عقابه. "وَاذْكُرُوا إذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْم نُوحٍ" يقول: فاتقوا الله في أنفسكم، واذكروا ما حلّ بقوم نوح من العذاب إذ عَصَوا رسولهم وكفروا بربهم، فإنكم إنما جعلكم ربكم خلفاء في الأرض منهم، لما أهلكهم أبدلكم منهم فيها، فاتقوا الله أن يحل بكم نظير ما حلّ بهم من العقوبة فيهلككم ويبدل منكم غيركم، سنته في قوم نوح قبلكم على معصيتكم إياه وكفركم به. "وَزَادَكُمْ فِي الخَلْقِ بَسْطَةً": زاد في أجسامكم طولاً وعِظَما على أجسام قوم نوح، وفي قَوامكم على قَوامهم، نعمة منه بذلك عليكم، فاذكروا نعمه وفضله الذي فضّلكم به عليهم في أجسامكم وقَوامكم، واشكروا الله على ذلك بإخلاص العبادة له وترك الإشراك به وهجر الأوثان والأنداد. "لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ" يقول: كي تفلحوا، فتدركوا الخلود والبقاء في النعم في الآخرة، وتنجحوا في طلباتكم عنده...

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

يحتمل قوله {واذكروا إذ جعلكم خلفاء} [وجوها: أحدها: أنه جعلكم خلفاء] قوم أهلكهم بتكذيبهم الرسل، ولم يهلككم، فاحذروا أنتم هلاككم بتكذيبكم الرسول كما أهلك أولئك بتكذيبهم الرسل. أو أن يقال: {جعلكم خلفاء} قوم صدّقوا رسولا من البشر، وهو نوح، فكيف كذّبتموني في دعوى الرسالة لأني بشر، ودعائي إلى عبادة الله ووحدانيته؟ هذا تناقض. والثاني: أن اذكروا نوحا، وهو كان رسولا من البشر، فكيف تنكرون أن يكون الرسول من البشر، وكان الرسل جميعا من البشر. والثالث: أن اذكروا نعمته التي أنعمها عليكم من السعة في المال والقوة في الأنفس وحسن الخلقة والقامة، وكان لعاد ذلك كله كقوله تعالى: {ألم تر كيف فعل ربك بعاد} {إرم ذات العماد} {التي} الآية [الفجر: 6و7و8] هذا في السعة في المال. وأما القوة في الأنفس والقامة [فهي] ما ذكر في قوله تعالى: {كأنهم أعجاز نخل خاوية} [الحاقة: 7] وقوله تعالى: {كأنهم أعجاز نخل منقعر} [القمر: 20] وصف لهم بالقوة وطول القامة. وعلى ذلك فسّر بعض أهل التأويل. وقوله تعالى: {وزادكم في الخلق بصطة} يعني قوة وقيل: هو الطول والعظم في الجسم. ذكر الله في عاد أشياء ثلاثة خصهم بها من غيرهم: أحدها: العظم في النفس بقوله تعالى: {وزادكم في الخلق بصطة} وفي القوة بقوله تعالى: {من أشد منا قوة} [فصلت: 15] [والثانية]: السعة في الأموال بقوله تعالى: {بعاد} {إرم ذات العماد} [الفجر: 6و7] و [الثالثة] فضل العلم بقوله تعالى: {وكانوا مستبصرين} [العنكبوت: 38]...

وقوله تعالى: {فاذكروا آلاء الله} قال بعضهم: الآلاء هي في دفع البلايا، والنعماء هي في سوق النعماء إليه. ولكنهما واحد؛ لأنه ما من بلاء يدفع عنه إلا وفي ذلك سوق نعمة أخرى إليه... وقوله تعالى: {لعلكم تفلحون} إن ذكرتم نعمه، وشكرتم له عليها، ولم تصرفوا عبادتكم وشكركم إلى غيره، أو يقول: لكي يلزمكم الفلاح، أو حتى تكونوا من أهل الفلاح...

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

وقوله "واذكروا اذ جعلكم خلفاء "فخلفاء جمع خليفة، وهو الكائن بدل غيره ليقوم بالأمر مقامه في تدبيره.

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

{وَاذكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً} أي واذكروا فضل الله عليكم ونعمه إذ جعلكم خلفاء الأرض من بعد قوم نوح وزادكم في المخلوقات بسطة وسعة في الملك والحضارة. أو زادكم بسطة في خلق أبدانكم، إذ كانوا طوال الأجسام أقوياء الأبدان. وفي التفسير المأثور روايات إسرائيلية الأصل في المبالغة في طولهم وقوتهم ولا يعتمد عليها ولا يحتج بشيء منها. ولكن نص على قوتهم وجبروتهم في سور هود والشعراء وفصلت {فَاذْكُرُواْ آلاء اللّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون} أي فاذكروا نعم الله واشكروها له لعلكم تفوزون بما أعده للشاكرين من إدامتها عليهم وزيادتها لهم، ولن تكونوا كذلك إلا إذا عبدتموه وحده ولم تشركوا بعبادته أحدا، لا على سبيل الاستقلال ولا على سبيل جعله واسطة بينكم وبينه، فإن هذا حجاب دونه ومن حجب نفسه عما كرمه ربه به من التوجه إليه وحده في الدنيا حجب عن لقاءه في الآخرة، وإنما يحجب عن ربه الكافرون لا المؤمنون الشاكرون.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

(واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح، وزادكم في الخلق بسطة. فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون).. فلقد كان من حق هذا الاستخلاف، وهذه القوة والبسطة، أن تستوجب شكر النعمة، والحذر من البطر، واتقاء مصير الغابرين. وهم لم يأخذوا على الله عهداً: أن تتوقف سنته التي لا تتبدل، والتي تجري وفق الناموس المرسوم، بقدر معلوم. وذكر النعم يوحي بشكرها؛ وشكر النعمة تتبعه المحافظة على أسبابها؛ ومن ثم يكون الفلاح في الدنيا والآخرة.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

انتقل من أمرهم بالتّوحيد إلى تذكيرهم بنعمة الله عليهم التي لا ينكرون أنّها من نعم الله دون غيره، لأنّ الخلق والأمر لله لا لغيره. تذكيراً من شأنه إيصالهم إلى إفراد الله تعالى بالعبادة. وإنّما أمرهم بالذّكر (بضمّ الذّال) لأنّ النّفس تنسى النّعم فتكفر المنعم، فإذا تذكّرت النّعمة رأتْ حقاً عليها أن تشكر المُنعم، ولذلك كانت مسألة شكر المنعم من أهمّ مسائل التّكليف.

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

قال لهم مقالة نوح: {أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم}، وأنذرهم بالعذاب الشديد إن لم يؤمنوا، وذكرهم بما كان من قوم فرعون، ونعم الله تعالى فقال: {لينذركم}، أي يبين لكم عقاب الله، وإني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم {واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بصطة فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون}.

ذكرهم بثلاثة أمور تدنيهم، وتجعلهم يشعرون بأن الله أنعم عليهم، وأعطاهم العبر ليعتبروا:

ذكرهم أولا – بأنهم خلفاء قوم نوح، وإن ذلك فيه عبرة لهم لأنهم كيف أغرقوا، ولم ينج إلا من حملته السفينة الربانية، وخلفاء جمع خليفة، أي أنهم خلفوهم في سكنى أرضهم وأرسل هو إليهم، كما أرسل نوح من قبل.

وذكرهم ثانيا – بأن الله زادهم في الخلق بصطة، أي قوة في الجسم فكانوا عمالقة، وبصطة أصلها بسطة، وتكتب السين صادا، لاتصالها بالطاء، وهي ساكنة.

وذكرهم ثالثا – بنعم الله تعالى عليهم من زروع وثمار، فقال: {فاذكروا آلاء الله} أي نعمه، واحدها (إلي) و (ألي).

ذكرهم بهذه الأمور الثلاثة رجاء أن يعتبروا ويتعظوا ويؤمنوا، وبذلك ينالون الفلاح والفوز؛ ولذا قال تعالى: {لعلكم تفلحون}، أي لترجوا الفلاح والفوز بالصلاح في الدنيا والنعيم في الآخرة.

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

ويقول سبحانه على لسان سيدنا هود: {أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آَلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.

جاء الحق هنا بالذكر للإنذار فقال: {لينذركم} فقط، وليس كما قال في قوم نوح: {ولتتقوا ولعلكم ترحمون} لأن الإنذار لم يأت لمجرد الإنذار، بل لنرتدع ونتقي، لكي نُرحم، إذن فحين يأتي بأول الحلقة وأول الخيط وهو الإنذار فنحن نستنتج الباقي وهو التقوى لنصل إلى الرحمة: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ}: وهذا كلام جديد؛ لأن قوم نوح هم أول قوم عُذّبوا حين لم يؤمنوا، وجاء سيدنا هود إلى عاد بعد ذلك، يبلّغهم وينذرهم ليأخذوا العبرة من نوح وقومه:

{وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آَلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (من الآية 69 سورة الأعراف): ويذكرهم سيدنا هود أن الحق قد أعطى لهم أجساما فارغة فيها بسطة وطول، ويقال: إن الطويل منهم كان يبلغ طوله مائة ذراع، والقصير منهم كان يبلغ طوله ستين ذراعا، ويأمرهم سيدنا هود أن يذكروا آلاء الله، أي نعمه عليهم، وأول النعم أن أرسل إليهم رسولا يأخذ بأيديهم إلى مناطق الخير. فماذا كان ردهم؟

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

ثمّ إنّ هوداً أشار في معرض الردّ على من تعجب من أن يبعث الله بشراً رسولاً إلى نفس مقولة نوح النّبي لقومه: (أو عجبتم أن جاءكم ذِكرٌ من ربّكم على رجل منكم لينذركم) أي هل تعجبون من أن يرسل الله رجلا من البشر نبيّاً، ليحذركم من مغبة أعمالكم، وما ينتظركم من العقوبات في مستقبلكم؟

ثمّ إنّه استثارة لعواطفهم الغافية، وإثارة لروح الشكر في نفوسهم، ذكر قسماً من النعم التي أنعم الله تعالى بها عليهم، فقال: (واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح)، فقد ورثتم الأرض بكل ما فيها من خيرات عظيمة بعد أن هلك قوم نوح بالطوفان بسبب طغيانهم وبادوا.

ولم تكن هذه هي النعمة الوحيدة، بل وهب لكم قوة جسدية عظيمة (وزادكم في الخلق بصطة).

إنّ جملة (زادكم في الخلق بصطة) يمكن أن تكون كما ذكرنا إشارة إلى قوة قوم عاد الجسدية المتفوقة، لأنّه يستفاد من آيات قرآنية عديدة، وكذا من التواريخ، أنّهم كانوا ذوي هياكل عظمية قوية وكبيرة، كما نقرأ ذلك من قولهم في سورة «فصلت» الآية 15 (من أشدّ منا قوة) وفي الآية (7) من سورة الحاقة نقرأ عند ذكر ما نزل بهم من البلاء بذنوبهم (فترى القوم فيها صرعى كأنّهم أعجاز نخل خاوية) حيث شبه جسومهم بجذوع النخل الساقطة على الأرض.

ويمكن أن تكون إشارة أيضاً إلى تعاظم ثروتهم وإمكانياتهم المالية، ومدنيتهم الظاهرية المتقدمة، كما يستفاد من آيات قرآنية وشواهد تاريخية أُخرى، ولكن الاحتمال الأوّل أنسب مع ظاهر الآية.

وفي خاتمة الآية يذكّر تلك الجماعة الأنانيّة بأن يتذكروا نعم الله لتستيقظ فيهم روح الشكر فيخضعوا لأوامره، علّهم يفلحون (فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون).