البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{أَوَعَجِبۡتُمۡ أَن جَآءَكُمۡ ذِكۡرٞ مِّن رَّبِّكُمۡ عَلَىٰ رَجُلٖ مِّنكُمۡ لِيُنذِرَكُمۡۚ وَٱذۡكُرُوٓاْ إِذۡ جَعَلَكُمۡ خُلَفَآءَ مِنۢ بَعۡدِ قَوۡمِ نُوحٖ وَزَادَكُمۡ فِي ٱلۡخَلۡقِ بَصۜۡطَةٗۖ فَٱذۡكُرُوٓاْ ءَالَآءَ ٱللَّهِ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ} (69)

الآلاء النعم واحدها إلى كمعى .

أنشد الزجاج :

أبيض لا يرهب الهزال ولا ***

يقطع رحمي ولا يخون إلى

وإلى بمعنى الوقت أو إلى كقفا وإلى كحسى أو إلى كجرو ، وقع قال النضر بن شميل قرع وصدر كوقوع الميقعة وقال غيره : نزل والواقعة النازلة من الشدائد والوقائع الحروب والميقعة المطرقة .

قال بعض أدبائنا :

ذو الفضل كالتبر طوراً تحت ميقعة ***

وتارة في ذرى تاج على ملك

{ أو عجبتم أن جاءكم ذلك من ربكم على رجل منكم لينذركم } أتى هنا بعلة واحدة وهي الإنذار وهو التخويف بالعذاب واختصر ما يترتب على الإنذار من التقوى ورجاء الرحمة .

{ واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح } أي سكان الأرض بعدهم قاله السدّي وابن إسحاق ، أو جعلكم ملوكاً في الأرض استخلفكم فيها قاله الزمخشري ، وتذكير هود بذلك يدلّ على قرب زمانهم من زمان نوح لقوله { من بعد قوم نوح } و { إذ } ظرف في قول الحوفي فيكون مفعول { اذكروا } محذوفاً أي واذكروا آلاء الله عليكم وقت كذا والعامل في { إذ } ما تضمنه النعم من الفعل وفي قول الزمخشري { إذ } مفعول به وهو منصوب باذكروا أي اذكروا وقت جعلكم .

{ وزادكم في الخلق بسطة } ظاهر التواريخ أنّ البسطة الامتداد والطول والجمال في الصور والأشكال فيحتمل إذ ذاك أن يكون الخلق بمعنى المخلوقين ويحتمل أن يكون مصدراً أي وزادكم في خلقكم بسطة أي مد وطول حسن خلقكم قيل : كان أقصرهم ستين ذراعاً وأطولهم مائة ذراع قاله الكلبي والسدّي ، وقال أبو حمزة اليماني : سبعون ذراعاً .

وقال ابن عباس ثمانون ذراعاً .

وقال مقاتل : اثنا عشر ذراعاً .

وقال وهب : كان رأس أحدهم مثل القبة العظيمة وعينه تفرخ فيها الضباع وكذلك منخره وإذا كان الخلق بمعنى المخلوقين فالخلق قوم نوح أو أهل زمانهم أو الناس كلهم أقوال ، وقيل : الزيادة في الإجرام وهي ما تصل إليه يد الإنسان إذا رفعها ، وقيل الزيادة هي في القوة والجلادة لا في الإجرام .

وقيل : زيادة البسطة كونهم من قبيلة واحدة مشاركين في القوة متناصرين يحبّ بعضهم بعضاً ويحتمل أن يكون المعنى { وزادكم بسطة } أي اقتداراً في المخلوقين واستيلاء .

{ فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون } ذكرهم أولاً بإنعامه عليهم حيث جعلهم خلفاء وزادهم بسطة وذكرهم ثانياً بنعمه عليهم مطلقاً لا بتقييد زمان الجعل واذكروا الظاهر أنه من الذكر وهو أن لا يتناسوا نعمه بل تكون نعمه على ذكر منكم رجاء أن تفلحوا وتعليق رجاء الفلاح على مجرّد الذّكر لا يظهر فيحتاج إلى تقدير محذوف بترتب عليه رجاء الفلاح وتقديره والله أعلم { فاذكروا آلاء الله } وإفراده بالعبادة ألا ترى إلى قوله { أجئتنا لنعبد الله وحده } وفي ذكرهم { آلاء الله } ذكر المنعم عليهم المستحقّ لإفراده بالعبادة ونبذه ما سواه ، وقيل : اذكروا هنا بمعنى اشكروا .

{ قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا فائتنا بما تعدنا إن كنت من الصّادقين } الظاهر أنهم أنكروا أن يتركوا أصنامهم ويفردوا الله بالعبادة مع اعترافهم بالله حبّاً لما نشؤوا عليه وتآلفاً لما وجدوا آباءهم عليه ويحتمل أن يكونوا منكرين لله ويكون قولهم { لنعبد الله وحده } أي على قولك يا هود ودعواك قاله ابن عطية ، وقال التأويل الأوّل أظهر فيهم وفي عباد الأوثان ولا يجحد ربوبية الله من الكفرة إلا من ادّعاها لنفسه كفرعون ونمرود انتهى ، وكان في قول هود لقومه { فاذكروا آلاء الله } دليل قاطع على أنه لا يعبد إلا المنعم وأصنامهم جمادات لا قدرة على شيء البتة والعبادة هي نهاية التعظيم فلا يليق إلا بمن يصدر عنه نهاية الإنعام ولما نبّه على هذه الحجة ولم يكن لهم أن يجيبوا عنها عدلوا إلى التقليد البحت