محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{أَوَعَجِبۡتُمۡ أَن جَآءَكُمۡ ذِكۡرٞ مِّن رَّبِّكُمۡ عَلَىٰ رَجُلٖ مِّنكُمۡ لِيُنذِرَكُمۡۚ وَٱذۡكُرُوٓاْ إِذۡ جَعَلَكُمۡ خُلَفَآءَ مِنۢ بَعۡدِ قَوۡمِ نُوحٖ وَزَادَكُمۡ فِي ٱلۡخَلۡقِ بَصۜۡطَةٗۖ فَٱذۡكُرُوٓاْ ءَالَآءَ ٱللَّهِ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ} (69)

[ 69 ] { أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بسطة فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون ( 69 ) } .

{ أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم } أي : / أيام الله ولقاءه ، أي : لا تعجبوا واحمدوا الله على ذلك { واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح } أي : خلفتموهم في مساكنهم ، أو في الأرض بأن جعلكم ملوكا بعدهم ، فإن شدّاد بن عاد ممن ملك معمورة الأرض من رمل عالج إلى شحر عمان- كذا قالوا- { وزادكم في الخلق بسطة } أي قامة وقوة { فاذكروا آلاء الله } أي : في استخلافكم ، وبسطة أجرامكم ، وما سواهما من عطاياه ، لتخصصوه بالعبادة { لعلكم تفلحون } أي تفوزون بالفلاح .

تنبيهان

الأول : قال الزمخشري : في إجابة الأنبياء عليهم السلام ، مَنْ نَسَبَهم إلى الضلال والسفاهة ، بما أجابوهم به من الكلام الصادر عن الحلم والإغضاء ، وترك المقابلة بما قالوا لهم ، مع علمهم بأن خصومهم أضل الناس وأسفههم- أدب حسن ، وخلق عظيم . وحكاية الله عز وجل ذلك ، تعليم لعباده كيف يخاطبون السفهاء ، وكيف يغضون عنهم ويسبلون أذيالهم ، على ما يكون منهم-انتهى- .

وزاد القاضي : إن في ذلك كمال النصح والشفقة ، وهضم النفس ، وحسن المجادلة قال : وهكذا ينبغي لكل ناصح –انتهى- .

الثاني : لا يعتمد على ما يذكره بعض المؤرخين المولعين بنقل الغرائب ، بدون وضعها على محك النظر والنقد ، من المبالغة في طول قوم عاد ، وضخامة أجسامهم ، وأن أطولهم كان مائة ذراع ، وأقصرهم كان ستين ذراعا ، فإن ذلك لم يقم عليه دليل عقلي ولا نقلي ، وهو وهم . وأما قوله جل شانه مخاطبا لقوم عاد : { زادكم في الخلق بسطة } فإنه لا يدل على ما أرادوا ، وإنما يدل على عظم أجسامهم وقوتهم وشدتهم . وهذا من الأمور المعتادة . فإن الأمم ليست متساوية في ضخامة الجسم وطوله وقوته ، بل تتفاوت لكن تفاوتا قريبا . ومما يدل على أن أجسام من سلف كأجسامنا ، لا تتفاوت عنها تفاوتا كبيرا ، مساكن ثمود / قوم صالح الباقية ، وآثارهم البادية . ومثله ، بل أعرق منه في الوهم ، ما ينقلونه في وصف عوج بن عنق الجبار ملك بيسان ، من أنه كان يحتجز بالسحاب ويشرب منه من طوله ، ويتناول الحوت من قرار البحر ، فيشويه بعين الشمس ، يرفعه إليها . والحال أن الشمس كوكب ، لا مزاج له من حر أو برد ، وإنما حرارتها من انعكاس شعاعها ، بمقابلة سطح الأرض والهواء ، فشدة حرارتها في الأرض ، وتتناقص الحرارة فيما علا عنها بمقدار الارتفاع .

وقد أنكر العلامة ابن خلدون جميع ذلك في ( مقدمة تاريخه ) ، وأبان أن الذي أدخل الوهم على الناس في طول الأقدمين هو ما يشاهدونه من بعض آثارهم الجسيمة ، ومصانعهم العظيمة ، كأهرام مصر وإيوان كسرى ، فيتخيلون لأصحابها أجساما تناسب ذلك . والحال أن عظم هذه المصانع والآثار في أمة من الأمم ناشئ عن عظم ذواتها ، واتساع ممالكها ، وقوة شوكتها ، ونماء ثروتها ، واستعانتها بالماهرين في فن جر الأثقال ، فإنه يقوم بحمل ما تعجز القوى البشرية عن عشر معشاره . وأنكر أيضا ما ينقلون من قصة جنة عاد ، وأنها مدينة عظيمة قصورها من الذهب ، وأساطينها من الزبرجد والياقوت ، وفيها أصناف الشجر والأنهار المطردة ، وأنها بنيت في مدة ثلاثمائة سنة في صحاري عدن . بناها شداد بن عاد حيث سمع وصف الجنة ، وأنها لما تم بناؤها ، أرسل الله على أهلها صيحة ، فهلكوا كلهم ، وأن اسمها ( إرم ذات العماد ) وأنها المشار إليها بقوله تعالى : { ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد }{[4067]} ويزعمون أنها لم تزل باقية في بلاد اليمن ، وإنما حجبت عن الأبصار . وحيث إذ ذلك لم يرو عن الصادق الأمين فلا نعول عليه ، ولا نلتفت إليه . وأغلب المولعين بنقل مثل هذه الغرائب المصنعة ، هم المؤرخون الذين يعتمدون على أخبار بني إسرائيل ويقلدونهم من غير برهان ودليل والله الهادي إلى سواء السبيل- كذا أفاده بعض المحققين- .


[4067]:- [89/ الفجر/ 6-8].