نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{أَوَعَجِبۡتُمۡ أَن جَآءَكُمۡ ذِكۡرٞ مِّن رَّبِّكُمۡ عَلَىٰ رَجُلٖ مِّنكُمۡ لِيُنذِرَكُمۡۚ وَٱذۡكُرُوٓاْ إِذۡ جَعَلَكُمۡ خُلَفَآءَ مِنۢ بَعۡدِ قَوۡمِ نُوحٖ وَزَادَكُمۡ فِي ٱلۡخَلۡقِ بَصۜۡطَةٗۖ فَٱذۡكُرُوٓاْ ءَالَآءَ ٱللَّهِ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ} (69)

ولما كان يعرف ما يعتقدونه من أمانته وعقله ، وظن أنه ما حملهم على هذا إلا العجب من أن يطلع على ما لم يطلعوا عليه ، أنكر عليهم ذلك ذاكراً لما ظنه حاملاً لهم ملوحاً بالعطف إلى التكذيب فقال : { أو عجبتم } أي أكذبتم وعجبتم { أن جاءكم ذكر } أي شرف وتذكير { من ربكم } أي الذي لم يقطع{[32519]} إحسانه عنكم{[32520]} قط ، منزلاً { على رجل منكم } أي عزه عزكم وشرفه شرفكم فما{[32521]} فاتكم شيء { لينذركم } أي يحذركم ما لمن كان على ما أنتم عليه من وخامة العاقبة .

ولما كان التقدير : فاحذروا ، عطف عليه تذكيرهم بالنعمة مشيراً به إلى التحذير من عظيم النقمة في قوله : { واذكروا إذ } أي حين { جعلكم خلفاء } أي فيما أنتم فيه من الأرض ، ولما كان زمنهم متراخياً بعدهم ، أتى بالجار فقال : { من بعد قوم نوح } أو يكون المحذوف ما اقتضاه الاستفهام في قوله { أو عجبتم } من طلب الجواب ، أي أجيبوا واذكروا ، أي ولا تبادروا بالجواب حتى تذكروا ما أنعم به عليكم ، وفيه الإشارة إلى التحذير مما وقع لقوم نوح ، أو يكون العطف على معنى الاستفهام الإنكاري في{[32522]} { أفلا تتقون } ، { أو عجبتم } أي اتقوا ولا تعجبوا واذكروا ، أو يكون العطف - وهو أحسن على { اعبدوا الله } وقوله { خلفاء } قيل : إنه يقتضي أن يكونوا قاموا{[32523]} مقامهم ، ومن المعلوم أن قوم نوح كانوا ملء{[32524]} الأرض ، وأن عاداً إنما كانوا في قطعة منها يسيرة و{[32525]}هي الشجرة{[32526]} من ناحية اليمن ، فقيل : إن ذلك لكون شداد بن عاد ملك جميع الأرض ، فكأنه قيل : جعل جدكم خليفة في جميع الأرض ، فلو حصل الشكر لتمت النعمة ، فأطيعوا يزدكم من فضله ، وقيل{[32527]} : إن{[32528]} قصة ثمود مثل ذلك ، ولم يكن فيهم من ملك الأرض ولا أرض عاد ، فأجيب{[32529]} بما طرد{[32530]} ، وهو أن عاداً لما كانوا أقوى أهل الأرض أبداناً وأعظمهم أجساداً وأشدهم خلقاً وأشهرهم قبيلة وذكراً ، كان سائر{[32531]} الناس لهم تبعاً ، وكذا ثمود فيما أعطوه من القدرة على نحت الجبال ونحوها بيوتاً ، وعندي أن السؤال من أصله لا يرد فإن بين قولنا : فلان{[32532]} خليفة فلان ، وفلان خليفة من بعد فلان - من الفرق ما لا يخفى ، فالمخلوف في الثاني لم يذكر ، فكأنه قيل : جعلكم خلفاء لمن كان قبلكم في هذه الأرض التي أنتم بها ، وخص قوم نوح وعاد بالذكر تذكيراً بما حل بهم من العذاب ، ولهذا بعينه خص الله هذه{[32533]} الأمم التي وردت في القرآن بالذكر ، وإلا فقد كانت الأمم كثيرة العد زائدة على الحد عظيمة الانتشار في جميع الأقطار ، ومعلوم أن الله تعالى لم يترك واحدة منها بغير رسول{ وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً }{[32534]} وفي قصة هود في سورة الأحقاف{ وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه }{[32535]} ؛ وله سر آخر وهو{[32536]} أن هذه الأمم كان{[32537]} عند العرب كثير من أخبارهم ففصلت لهم أحوالهم ، وطوي عنهم من{[32538]} لم يكن عندهم شعور بهم فلم يذكروا إلا إجمالاً لئلا يسارعوا إلى التكذيب بما ينزل فيهم من غير دليل شهودي يقام عليهم .

ولما ذكرهم بمطلق الإبقاء بعد ذلك الإغراق العام ، أتبعه التذكير بالزيادة فقال : { وزادكم } أي على من قبلكم أو على من هو موجود في الأرض في زمانكم { في الخلق } أي الخاص بكم { بسطة } أي في الحس بطول الأبدان والمعنى بقوة الأركان ، قيل : كان طول كل واحد منهم اثني عشر ذراعاً ، وقيل : أكثر .

ولما عظمت النعمة ، كرر عليهم التذكير فقال مسبباً عن ذلك { فاذكروا آلاء الله } أي نعم الذي استجمع صفات العظمة التي أنعم عليكم بها من الاستخلاف والقوة وغيرهما ، واذكروا أنه لا نعمة عندكم لغيره أصلاً ، فصار مستحقاً لأن تخصوه بالعبادة { لعلكم تفلحون* } أي ليكون حالكم حال من يرجى فلاحه وهو ظفره بجميع مراده ، لأن الذكر موجب{[32539]} للشكر الموجب للزيادة .


[32519]:- في ظ: لم يقع.
[32520]:- في الأصل: عليكم، وفي ظ: عنه.
[32521]:- من ظ، وفي الأصل: فلما.
[32522]:- في ظ: من.
[32523]:- في ظ: أقاموا.
[32524]:- زيد بعده في ظ: أهل.
[32525]:- من ظ، وفي الأصل: هو الشجر.
[32526]:-- من ظ، وفي الأصل: هو الشجر.
[32527]:- زيد من ظ.
[32528]:- زيد بعده في الأصل: في، ولم تكن الزيادة في ظ: فحذفناها.
[32529]:- من ظ، وفي الأصل: فأجيبت.
[32530]:- في ظ: يطرد.
[32531]:- سقط من ظ.
[32532]:- زيد من ظ.
[32533]:- سقط من ظ.
[32534]:- سورة 17 آية 15.
[32535]:- آية 21.
[32536]:- في ظ: هي.
[32537]:- في ظ: كانت.
[32538]:- في ظ: ما.
[32539]:- في ظ: يوجب.