مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{أَوَعَجِبۡتُمۡ أَن جَآءَكُمۡ ذِكۡرٞ مِّن رَّبِّكُمۡ عَلَىٰ رَجُلٖ مِّنكُمۡ لِيُنذِرَكُمۡۚ وَٱذۡكُرُوٓاْ إِذۡ جَعَلَكُمۡ خُلَفَآءَ مِنۢ بَعۡدِ قَوۡمِ نُوحٖ وَزَادَكُمۡ فِي ٱلۡخَلۡقِ بَصۜۡطَةٗۖ فَٱذۡكُرُوٓاْ ءَالَآءَ ٱللَّهِ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ} (69)

والفرق السادس : بين القصتين أن نوحا عليه السلام قال : { أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ولتتقوا ولعلكم ترحمون } وفي قصة هود أعاد هذا الكلام بعينه إلا أنه حذف منه قوله : { ولتتقوا ولعلكم ترحمون } والسبب فيه أنه لما ظهر في القصة الأولى أن فائدة الإنذار هي حصول التقوى الموجبة للرحمة لم يكن إلى إعادته في هذه القصة حاجة ، وأما بعد هذه الكلمة فكله من خواص قصة هود عليه السلام وهو قوله تعالى حكاية عن هود عليه السلام : { واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح }

واعلم أن الكلام في الخلفاء والخلائف والخليفة قد مضى في مواضع ، والمقصود منه أن تذكر النعم العظيمة يوجب الرغبة والمحبة وزوال النفرة والعداوة ، وقد ذكر هود عليه السلام ههنا نوعين من الأنعام : الأول : أنه تعالى جعلهم خلفاء من بعد قوم نوح ، وذلك بأن أورثهم أرضهم وديارهم وأموالهم وما يتصل بها من المنافع والمصالح . والثاني : قوله : { وزادكم في الخلق بسطة } وفيه مباحث :

البحث الأول : { الخلق } في اللغة عبارة عن التقدير ، فهذا اللفظ إنما ينطلق على الشيء الذي له مقدار وجثة وحجمية ، فكان المراد حصول الزيادة في أجسامهم ، ومنهم من حمل هذا اللفظ على الزيادة في القوة ، وذلك لأن القوى والقدر متفاوتة ، فبعضها أعظم وبعضها أضعف .

إذا عرفت هذا فنقول : لفظ الآية يدل على حصول الزيادة واعتداد تلك الزيادة ، فليس في اللفظ ألبتة ما يدل عليه إلا أن العقل يدل على أن تلك الزيادة يجب أن تكون زيادة عظيمة واقعة على خلاف المعتاد ، وإلا لم يكن لتخصيصها بالذكر في معرض الإنعام فائدة . قال الكلبي : كان أطولهم مائة ذراع وأقصرهم ستين ذراعا ، وقال آخرون : تلك الزيادة هي مقدار ما تبلغه يدا إنسان إذا رفعهما ، ففضلوا على أهل زمانهم بهذا القدر ، وقال قوم يحتمل أن يكون المراد من قوله : { وزادكم في الخلق بسطة } كونهم من قبيلة واحدة متشاركين في القوة والشدة والجلادة ، وكون بعضهم محبا للباقين ناصرا لهم وزوال العداوة والخصومة من بينهم ، فإنه تعالى لما خصهم بهذه الأنواع من الفضائل والمناقب فقد قرر لهم حصولها ، فصح أن يقال : { وزادكم في الخلق بسطة } ولما ذكر هود هذين النوعين من النعمة قال : { فاذكروا آلاء الله } وفيه بحثان :

البحث الأول : لا بد في الآية من إضمار ، والتقدير : واذكروا آلاء الله واعملوا عملا يليق بتلك الإنعامات لعلكم تفلحون . وإنما أضمرنا العمل لأن الصلاح الذي هو الظفر بالثواب لا يحصل بمجرد التذكر بل لا بد له من العمل ، واستدل الطاعنون في وجوب الأعمال الظاهرة بهذه الآية وقالوا : إنه تعالى رتب حصول الصلاح على مجرد التذكر ، فوجب أن يكون مجرد التذكر كافيا في حصول الصلاح . وجوابه ما تقدم من أن سائر الآيات ناطقة بأنه لا بد من العمل . والله أعلم .

البحث الثاني : قال ابن عباس : { آلاء الله } أي نعم الله عليكم . قال الواحدي : واحد لآلاء إلى وألوا وإلى . قال الأعشى :

أبيض لا يرهب الهزال ولا *** يقطع رحما ولا يخون إلي

قال نظير الآلاء الآناء ، واحدها : أنا وإني وإني ، وزاد صاحب «الكشاف » في الأمثلة فقال : ضلع وأضلاع ، وعنب وأعناب .