الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{أَوَعَجِبۡتُمۡ أَن جَآءَكُمۡ ذِكۡرٞ مِّن رَّبِّكُمۡ عَلَىٰ رَجُلٖ مِّنكُمۡ لِيُنذِرَكُمۡۚ وَٱذۡكُرُوٓاْ إِذۡ جَعَلَكُمۡ خُلَفَآءَ مِنۢ بَعۡدِ قَوۡمِ نُوحٖ وَزَادَكُمۡ فِي ٱلۡخَلۡقِ بَصۜۡطَةٗۖ فَٱذۡكُرُوٓاْ ءَالَآءَ ٱللَّهِ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ} (69)

قوله : { أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ على رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الخلق بَصْطَةً فاذكروا آلاءَ الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ قالوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ الله وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنا إِن كُنتَ مِنَ الصادقين }[ الأعراف :[ 69 و 70 ] .

قوله : { وَزَادَكُمْ فِي الخلق } أي في الخِلْقَةِ ، والبَسْطَةُ الكمال في الطول والعَرْضِ .

وقيل : زادكم على أهل عصركم .

وقال الطبري : زادكم على قَوْمِ نوح ، وقاله قتادة .

قال ( ع ) : واللفظ يقتضي أن الزيادة على جَمِيع العَالم ، وهو الذي يقتضيه ما يذكر عنهم .

وروي أن طُولَ الرجل منهم كان مائة ذِرَاعٍ ، وطول أقصرهم سِتُّون ونحوها . والآلاء جميع «إلى » على مثل «معي » ، وهي النعمة والمنة .

قال الطبري : " وعاد " هؤلاء فيما حدث ابن إِسْحاقَ من ولد عاد بن إرم بن عوض بن سَام بن نوح ، وكانت مَسَاكنهم «الشّحر » من أرض «اليمن » وما وَالى «حَضْرَمَوْتَ » إلى «عمان » .

قال السدي : وكانوا بالأَحْقَافِ ، وهي الرمال ، وكانت بلادهم أَخْصَبَ بلاد ، فردها اللَّه صحارى .

وقال علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه : إن قبر هُودٍ عليه السلام هنالك في كَثِيبٍ أحمر تُخَالطه مدرة ذات أَراكٍ وسِدْر ، وكانوا قد فشوا في جميع الأَرْض ، وملكوا كثيراً بِقُوَّتِهِمْ وعَدَدِهِمْ ، وظَلَمُوا النَّاسَ ، وَكَانُوا ثَلاَثَةَ عَشَرَ قَبِيلَةً ، وكانوا أَصْحَابَ أَوثان ، فبعث اللَّه إليهم هُوداً من أفضلهم وأوسطهم نَسَباً ، فدعاهم إِلى تَوْحِيدِ اللَّه سبحانه وإلى تَرْكِ الظُّلْمِ .

قال ابن إسحاق : ولم يأمرهم فيما يذكر بِغَيْرِ ذلك ، فكذبوه وعتوا ، واستمروا على ذلك إلى أن أراد اللَّه إنفاذ أمره أمْسَكَ عنهم المَطَرَ ثلاث سنين ، فشقوا بذلك ، وكان الناس في ذلك الزمان إذا دهمهم أمر ، فزعوا إلى المسجد الحرام بمكَّة ، فدعوا اللَّه فيه تَعْظِيماً له مؤمنهم وكافرهم ، وأهل «مكة » يومئذٍ العَمَالِيقُ ، وسيدهم رجل يسمى معاوية بن بَكْرٍ ، فاجتمعت عاد على أن تجهز منهم وَفداً إلى «مكة » يَسْتَسْقُونَ اللَّه لهم ، فبعثوا قيل بن عتر ، ولقيم بن هزال ، وعتيل بن ضد بن عاد الأكبر ، ومرثد بن سعد ، وكان هذا مؤمناً يكتم إيمانه ، وجلهمة بن الخيبري في سَبْعِينَ رَجُلاً من قومهم ، فلما قدموا «مكة » نَزَلُوا على معاوية بن بكر ، وهو بظاهر «مكة » خارج الحَرَمِ ، فأنزلهم ، وأقاموا عنده شَهْراً يشربون الخَمْرَ ، وتغنيهم الجَرَادَتَانِ قَيْنَتَا معاوية ، ولما رأى معاوية إقامتهم ، وقد بعثهم عَادٌ لِلْغَوْثِ أشفق على عَادٍ ، وكان ابن أختهم أمه : كلهدة ابنة الخيبرى أخت جلهمة ، وقال : هَلَكَ أخوالي ، وشق عليه أن يأمر أَضْيَافَهُ بالانصراف عنه ، فشكا ذلك إلى قَيْنَتَيْهِ ، فقالتا : اصنع شِعْراً نغني به ، عسى أَن نُنَبِّهَهُمْ ، فقال : [ الوافر ]

أَلاَ يَا قَيْلُ وَيْحَكَ قُمْ فَهَيْنِمْ *** لَعَلَّ اللَّهَ يُصْبِحُنَا غَمَامَا

فَيَسْقِي أَرْضَ عَادٍ إنَّ عَاداً *** قَدَ أمسوا لاَ يُبَينُونَ الكَلاَمَا

مِنَ العَطَشِ الشَّدِيدِ فَلَيْسَ نَرْجُو *** بِهِ الشَّيْخَ الكَبِيرَ وَلاَ الغُلاَمَا

وَقَدْ كَانَتْ نِسَاؤُهُمُ بِخَيْر *** فَقَدْ أَمْسَتْ نِسَاؤُهُمُ عياما

وَإِن الوُحْشَ تَأْتِيهِمْ جَهَاراً *** وَلاَ تخشى لِعَادِّ سِهَامَا

وَأَنْتُمْ هَاهُنَا فِيمَا اشْتَهَيْتُم *** نَهَارَكُمُ وَلَيْلَكُمُ التَّمَامَا

فَقُبِّحَ وَفْدُكُمْ مِنْ وَفْدِ قَوْمِ *** وَلاَ لُقُّوا التَّحِيَّةَ وَالسَّلاَمَا

فغنت به الجَرَادَتَانِ ، فلما سمعه القَوْمُ قال بعضهم : يا قوم إنما بعثكم قومكم لما حَلَّ بهم ، فادخلوا هذا الحَرَمَ ، وادعوا لَعَلَّ اللَّه يغيثهم ، فخرجوا لذلك ، فقال لهم مرثد بن سعد : إنكم واللَّه ما تسقون بدعائكم ، ولكنكم إن أطعتم نبيكم وآمنتم سقيتم ، وأظهر إيمانه يومئذٍ ، فَخَالَفَهُ الوَفْدُ ، وقالوا لمعاوية بن بكر وأبيه بكر : أحْبِسَا عنا مرثداً ، ولا يدخل معنا الحَرَم ، فإنه قد اتبع هُوداً ، ومَضَوْا إلى الحرم ، فاستسقى قيل بن عتر ، وقال : يا إلهنا إن كان هود صادقاً ، فاسقنا ، فإنا قد هلكنا ، فأنشأ اللَّه تعالى سحائب ثَلاَثاً بيضاء وحمراء وسوداء ، ثم نادى مُنَادٍ من السماء : يَا قَيْلُ اختر لنفسك ولقومك من هذه السحائب ما شِئْتَ ، فقال قيل : قد اخترت السَّوداء فإنها أكثرهن مَاءً ، فنودي

قد اخترت رَمَاداً رَمْدداً *** لاَ تُبْقُي مِنْ عَادٍ أَحَدَا

لا وَالِداً وَلاَ وَلَداً *** إِلاَّ جَعَلْتُهُمْ هَمَدَا

وساق اللَّه السَّحَابَةَ السوداء التي اختارها قيل إلى عاد حتى خرجت عليهم من وَادٍ لهم يقال له : المُغِيثُ ، فلما رأوها ، قالوا { هذا عَارِضٌ ممطرنا }[ الأحقاف :24 ] ، حتى عرفت أنها ريح امرأة منهم يقال لها : مهدر ، فصاحت وصعقت ، فلما أفاقت قيل لها : ما رأيت ؟ قالت : رأيت ريحاً فيها كَشُهبِ النار ، أمامها رجال يَقُودُونَهَا ، فسخرها اللَّه عليهم سَبْعَ ليال ، وثمانية أيام حُسْوماً ، والحُسُوم : الدائمة ، فلم تَدَعْ من عَادٍ أحداً إلا هلك ، فاعتزل هود ، ومن معه من المُؤْمنين في حَظِيرَةٍ ما يصيبه من رِيحٍ إلا ما يلتذ به .

قال ( ع ) : وهذا قصص وقع في «تفسير الطبري » مطولاً وفيه اختلاف ، فاقتضبت عيون ذلك بحسب الإيجاز ، وفي خبرهم : أن الريح كانت تَدْمَغُهُمْ بالحِجَارَةِ ، وترفع الظَّعِينَةَ عليها المرأة حتى تلقيها في البحر .

وفي خبرهم : أن أقوياءهم كان أحدهم يسدّ بنفسه مَهَبَّ الريح حتى تَغْلبَهُ فتلقيه في البَحْر ، فيقوم آخر مكانه حتى هَلَكَ الجَمِيعُ . وقال زيد بن أسلم : بلغني أن ضَبُعاً رَبَّتْ أولادها في حِجَاجِ عَيْنِ رَجُلٍ منهم .

وفي خبرهم : أن اللَّه سبحانه لما أهلكهم بَعَثَ طيراً ، فنقلت جِيفَهُمْ حتى طرحتها في البَحْرِ ، فذلك قوله سبحانه : { فَأْصْبَحُواْ لاَ يرى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ } [ الأحقاف : 25 ] وفي بعض ما رُويَ من شأنهم أن الريح لم تُبْعَثْ قط إلا بِمِكْيَالٍ إلا يومئذٍ ، فإنها عَتَتْ على الخَزَنَةِ ، فغلبتهم ، فذلك قوله سبحانه : { فأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ } [ الحاقة : 6 ] وروي أن هوداً لما هلكت عاد نزل بمن آمَنَ معه إلى «مكة » فكانوا بها حتى مَاتُوا ، فاللَّه أعلم أي ذلك كَانَ .