المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{۞وَٱتۡلُ عَلَيۡهِمۡ نَبَأَ نُوحٍ إِذۡ قَالَ لِقَوۡمِهِۦ يَٰقَوۡمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيۡكُم مَّقَامِي وَتَذۡكِيرِي بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ فَعَلَى ٱللَّهِ تَوَكَّلۡتُ فَأَجۡمِعُوٓاْ أَمۡرَكُمۡ وَشُرَكَآءَكُمۡ ثُمَّ لَا يَكُنۡ أَمۡرُكُمۡ عَلَيۡكُمۡ غُمَّةٗ ثُمَّ ٱقۡضُوٓاْ إِلَيَّ وَلَا تُنظِرُونِ} (71)

تقدم في الأعراف الكلام على لفظة { نوح } و «المقام » وقوف الرجل لكلام أو خطبة أو نحوه ، و «المُقام بضم الميم إقامته ساكناً في موضع أو بلد ، ولم يقرأ هنا بضم الميم{[6166]} و » تذكيره « : وعظه وزجره ، والمعنى : يا قوم إن كنتم تستضعفون حالي ودعائي لكم إلى الله فإني لا أبالي عنكم{[6167]} لتوكلي على الله تعالى فافعلوا ما قدرتم عليه ، وقرأ السبعة وجهور الناس وابن أبي إسحاق وعيسى : » فأجمعوا «من أجمع الرجل على الشيء إذا عزم عليه ومنه قول الشاعر : [ الكامل ]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** . . *** هل أغدونْ يوماً وأمر مجمع{[6168]} ؟

ومنه قول الآخر : [ الخفيف ]

أجمعوا أمرهم بليلِ فلما*** أصبحوا أصبحت لهم ضوضاء{[6169]}

ومنه الحديث ما لم يجمع مكثاً{[6170]} ومنه قول أبي ذؤيب : [ الكامل ]

ذكر الورود بها فأجمع أمرَهُ*** شوقاً وأقبلَ حينه يتتبع{[6171]}

وقرأ نافع فيما روى عنه الأصمعي وهي قراءة الأعرج وأبي رجاء وعاصم الجحدري والزهري والأعمش » فاجمَعوا بفتح الميم من جمع إذا ضم شيئاً إلى شيء ، و { أمركم } يريد به قدرتكم وحياتكم ويؤيد هذه القراءة قوله تعالى : { فتولى فرعون فجمع كيده }{[6172]} وكل هؤلاء نصب «الشركاء » ، ونصب قوله : { شركاءكم } ، يحتمل أن يعطف على قوله { أمركم } ، وهذا على قراءة «فاجمعوا » بالوصل{[6173]} ، وأما من قرأ : «فأجمعوا » بقطع الألف فنصب «الشركاء » بفعل مضمر كأنه قال : وادعوا شركاءكم فهو من باب قول الشاعر : [ المتقارب ]

*شراب اللبان وتمر وأقط*{[6174]}

ومن قول الآخر : [ مجزوء الكامل مرفل ]

ورأيت زوجك في الوغى*** متقلداً سيفاً ورمحا{[6175]}

ومن قول الآخر : [ الرجز ]

علفتها تبناً وماء بارداً*** حتى شَأت همالة عيناها{[6176]}

وفي مصحف أبي بن كعب : «فأجمعوا وادعوا شركاءكم » ، قال أبو علي : وقد ينتصب «الشركاء » بواو «مع » ، كما قالوا : جاء البريد والطيالسة ، وقرأ أبو عبد الرحمن والحسن وابن أبي إسحاق وعيسى وسلام ويعقوب وأبو عمرو فيما روي عنه «وشركاؤكم » بالرفع عطفاً على الضمير في { أجمعوا } ، وعطف على الضمير قبل تأكيده لأن الكاف والميم في { أمركم } ناب مناب أنتم المؤكد للضمير ، ولطول الكلام أيضاً ، وهذه العبارة أحسن من أن يطول الكلام بغير ضمير{[6177]} ، ويصح أن يرتفع بالابتداء والخبر مقدر تقديره وشركاؤهم فليجمعوا ، وقرأت فرقة «وشركائكم » بالخفض على العطف على الضمير في قوله : { أمركم } ، التقدير وأمر شركائكم ، فهو كقول الشاعر [ العجّاج ] :

أكل امرىء تحسبين أمرأً*** ونار توقد بالليل نارا{[6178]}

أي وكل نار ، والمراد بالشركاء في هذه الآية الأنداد من دون الله ، فأضافهم إليهم إذ يجعلونهم شركاء بزعمهم ، وقوله { ثم لا يكن أمركم عليكم غمة } ، أي ملتبساً مشكلاً ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في الهلال ، «فإن غم عليكم » ومنه قول الراجز :

ولو شهدت الناس إذا تكمّوا*** بغمة لو لم تفرجْ غمّوا{[6179]}

وقوله { ثم اقضوا إلي } ومعناه أنفذوا قضاءكم نحوي ، وقرأ السدي بن ينعم : «ثم أفضوا » بالفاء وقطع الألف ، ومعناه : أسرعوا وهو مأخوذ من الأرض الفضاء أي اسلكوا إلي بكيدكم واخرجوا معي وبي إلى سعة{[6180]} وجلية ، وقوله { ولا تنظرون } أي لا تؤخرون والنظرة التأخير .


[6166]:- قال أبو حيان: "وليس كما ذكر، بل قرأ [مُقامي] بضم الميم أبو مجلز، وأبو رجاء، وأبو الجوزاء".
[6167]:-تتعدى (بالَى) بنفسها أو بالباء فيقال: ما أباليه، وما أبالي بالأمر، ولم يسمع أنها تتعدى بعن.
[6168]:- هذا عجز بيت أورده صاحب "اللسان" في (جمَعَ)، وهو من شواهد الفراء في "معاني القرآن"، وذكره القرطبي وأبو حيان في "البحر المحيط"، وهو كذلك في "الصحاح" و"التاج"، والبيت بتمامه: يا ليت شعري والمنى لا تنفع هل أغدون يوما وأمري مجمع؟ قال في "اللسان": "وجمع أمره، وأجمعه، وأجمع عليه: عزم عليه كأنه جمع نفسه له، والأمر مُجمع، ويقال أيضا: أجمع أمرك ولا تدعه منتشرا".
[6169]:- هذا البيت من شواهد النحويين، ولم يذكره من المفسرين غير ابن عطية والبحر المحيط، وأجمعوا أمرهم: عزموا عليه واتفقوا، والشاعر في البيت يصور اتفاقهم على أمرهم بالليل، فلما جاء الصباح كان لهم ضجيج وضوضاء، هذا ينادي، وذاك يجيب، وبين الإجابة والنداء يرتفع الرغاء والثغاء.
[6170]:- هذا جزء من حديث عن صلاة المسافر رواه في الموطأ ، ولفظه: (أصلي صلاة المسافر ما لم أجمع مكثا)، أي أعزم إقامة. هكذا في "النهاية"، وفي "الموطأ" وراجع أيضا "المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي- مكث".
[6171]:-ورد المكان: أشرف عليه سواء دخل أو لم يدخل، والمعنى هنا: "تذكر الوصول إلى غايته"، وأجمع أمره: عزم وصمم من شدة شوقه، والحين: الهلاك. يصور شوقه ورغبته في ورود الماء وسعيه إليه ومن ورائه الهلاك.
[6172]:- من الآية (60) من سورة (طه).
[6173]:- ويحتمل أن يكون منصوبا على أنه مفعول معه، أو على حذف مضاف، أي: ذوي الأمر منكم، فجرى على المضاف إليه ما جرى على المضاف لو ثبت. قاله أبو حيان في البحر نقلا عن أبي علي الفارسي، وقد نقل المؤلف احتمال النصب على المعية عن الفارسي.
[6174]:- لأن التمر لا يشرب وكذلك الأقط فلا بد من فعل محذوف تقديره: "وأكّال"، لأن في المذكور من الكلام دليل على المحذوف، والأقط: لبن محمض يجمّد حتى يستحجر ويطبخ، أو يطبخ به.
[6175]:- والرمح لا يُتقلّد بل يحملن ولهذا يقدر الناصب: "وحاملا"، وقائل البيت هو عبد الله بن الزبعري كما في الكامل للمبرد، ويروى: "يا ليت زوجك قد غدا". وهذا قد سبق الاستشهاد به في الجزء الأول ص 157.
[6176]:-والماءُ لا يعلف، ولهذا يقدر الناصب: "وسقيتها"، ويروى: (بدت) و(غدت) بدلا من (شتت) والمعنى واحد، والبيت في ابن عقيل والعيني، وقد روي البيت بلفظ آخر سبق أن ذكرناه في الجزء الأول ص 157 وهو: لما حططت الرحل عنها واردا علفتها تبنا وماء باردا والبيت مجهول القائل، وقيل: إنه لذي الرمّة.
[6177]:- وقد جاز العطف على الضمير بدون تأكيد لطول الكلام بـ(لا) في قوله تعالى: {ما أشركنا ولا آباؤنا} [148-الأنعام] وذلك مع وقوعها بعد الواو، فمن باب أولى يجوز هنا للفصل بالكاف والميم الواقعين قبل الواو. ولكن ذلك ليس في قوة التأكيد نحو قوله تبارك وتعالى: {اسكن أنت وزوجك الجنة}، وذلك لأن التوكيد فيه معنى لا يوجد في الفصل بغيره، إذ هو يثبت معنى الإسمية للمضمر المتصل الذي مازج الفعل وصار كجزء منه فضعف الفعل عن أن يعطف عليه، لكنه إذا أكد صار في حيّز الأسماء ولحق بما يحسن العطف عليه. قاله أبو الفتح في كتابه "المحتسب".
[6178]:- نسب هذا البيت لجارية بن الحجاج، ولحارثة بن حمران، ولعدي بن زيد، ولكن المشهور أنه لأبي داؤد، وهو في الكتاب لسيبويه، وفي الكامل للمبرد، وفي ابن عقيل.
[6179]:- الراجز هو العجاج، والبيت في ديوانه، ونسبه له ابن منظور في "اللسان" والقرطبي في تفسيره، ونسبه الطبري إلى رؤبة، وهذا غير صحيح، والبيت مطلع أرجوزة للعجاج يذكر كسعود بن عمرو العتكي من الأزد، وتُكمّوا بضم التاء والكاف: ألبسوا كمة فتغطوا بها، والأصل: تكمموا بميمين من كممت الشيء إذا سترته، ثم أبدلت الميم الأخيرة ياء فصار في التقدير: تكميوا، ثم حذفت الياء فصارت: تُكُمّوا، نقل ذلك "التاج" عن الفراء، والغمّ والغُمّة: الكرب، والمعنى: تغطّوا بالكرب والهم.
[6180]:- قال أبو الفتح: هو أفعلت من الفضاء، وذلك أنه إذا صار إلى الفضاء تمكن من الإسراع، ولام أفضيت والفضاء وما تصرف منهما واو لقولهم: فضا الشيء يفضوا فضوا إذا اتسع، وقولهم: أفضيت: صرت إلى الفضاء، مثل أنجدت: صرت إلى نجد.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{۞وَٱتۡلُ عَلَيۡهِمۡ نَبَأَ نُوحٍ إِذۡ قَالَ لِقَوۡمِهِۦ يَٰقَوۡمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيۡكُم مَّقَامِي وَتَذۡكِيرِي بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ فَعَلَى ٱللَّهِ تَوَكَّلۡتُ فَأَجۡمِعُوٓاْ أَمۡرَكُمۡ وَشُرَكَآءَكُمۡ ثُمَّ لَا يَكُنۡ أَمۡرُكُمۡ عَلَيۡكُمۡ غُمَّةٗ ثُمَّ ٱقۡضُوٓاْ إِلَيَّ وَلَا تُنظِرُونِ} (71)

من مقارعة المشركين بالحجج الساطعة على بطلان دينهم ، وبالدلائل الواضحة على تفنيد أكاذيبهم وتكذيبهم وما تخلل ذلك من الموعظة والوعيد بالعذاب العاجل والآجل والإرهاب ، إلى التعريض لهم بذكر ما حل بالأمم المماثلة أحوالها لأحوالهم ، استقصاء لطرائق الحجاج على أصحاب اللجاج ؛ فإن نوحاً عليه السلام مع قومه مَثَل لحال محمد صلى الله عليه وسلم مع المشركين من قومه في ابتداء الأمر وتطوره ، ففي ذكر عاقبة قوم نوح عليه السلام تعريض للمشركين بأن عاقبتهم كعاقبة أولئك أو أنهم إنما يمتعون قليلاً ثم يؤخذون أخذة رابية ، كما متع قوم نوح زمناً طويلاً ثم لم يفلتوا من العذاب في الدنيا ، فذكر قصة نوح مع قومه عِظة للمشركين وملقياً بالوجل والذعر في قلوبهم ، وفي ذلك تأنيس للرسول صلى الله عليه وسلم وللمسلمين بأنهم إسوة بالأنبياء ، والصالحين من أقوامهم ، وكذلك قصة موسى عليه السلام عقبها كما ينبئ عن ذلك قولهُ في نهاية هذه القصص { أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين } [ يونس : 99 ] الآيات . وقوله : { فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك } [ يونس : 94 ] الآيات .

وبهذا يظهر حسن موقع ( إذْ ) من قوله : { إذ قال لقومه يا قوم } إلى آخره ، فإن تقييد النبأ بزمن قوله : { لقومه } إيماء إلى أن محاورته قومه وإصرارهم على الإعراض هو محل العبرة ، لأنه وجه الشبه بين المشركين وبين قوم نوح عليه السلام في صم آذانهم عن دعوة رسولهم ، وقوله ذلك لهم إنما كان بعد أن كرر دعاءَهم زمناً طويلاً فكان ذلك آخر جدل بينه وبينهم ، والنبي صلى الله عليه وسلم قد دعا أهل مكة سنين وقت نزول هذه السورة ثم حاورهم وجادلهم ولأن ذلك الزمن هو أعظم موقف وقفه نوح عليه السلام مع قومه ، وكان هو الموقف الفاصل الذي أعقبه العذاب بالغرق .

و { إذا } اسم للزمن الماضي . وهو هنا بدل اشتمال من { نبأ } أو من { نوح } . وفي ذكر قصة نوح عليه السلام وما بعدها تفصيل لما تقدم إجماله من قوله تعالى : { ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لمَّا ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات } [ يونس : 13 ] .

وضمير { عليهم } عائد إلى { الذين يفترون على الله الكذب } [ يونس : 69 ] .

والتلاوة : القراءة . وتقدمت في سورة الأنفال .

والنبأ : الخبر . وتقدم في قوله : { ولقد جاءك من نبأ المرسلين } في سورة [ الأنعام : 34 ] .

والتعريف بنوح عليه السلام وتاريخه مضى في أول آل عمران .

وتعريف قوم نوح بطريق الإضافة إلى ضمير نوح في قوله : { إذ قَال لقومه } إذ ليس ثمة طريق لتعريفهم غير ذلك إذ لم يكن لتلك الأمة اسم تعرف به ، فإنهم كانوا أمة واحدة في الأرض فلم يحصل داع إلى تسميتهم باسم جَد أو أرض إذ لم يكن ما يدعو إلى تمييزهم إذ ليس ثمة غيرهم ، ألا ترى إلى حكاية الله عن هود في قوله لقومه

{ واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح } [ الأعراف : 69 ] ، ولما حكى عن صالح إذ قال لقومه : { واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد } [ الأعراف : 74 ]

وظرف { إذ } وما أضيف إليه في موضع الحال من { نبأ نوح } .

وافتتاح خطاب نوح قومَه ب { يا قوم } إيذان بأهمية ما سيلقيه إليهم ، لأن النداء طلب الإقبال . ولما كان هنا ليس لطلب إقبال قومه إليه لأنه ما ابتدأ خطابهم إلا في مجمعهم تعين أن النداء مستعمل مجازاً في طلب الإقبال المجازي ، وهو توجيه أذهانهم إلى فهم ما سيقوله .

واختيار التعبير عنهم بوصف كونهم قومه تحبيب لهم في نفسه ليأخذوا قوله مأخذ قول الناصح المتطلب الخيرَ لهم ، لأن المرء لا يريد لقومه إلا خيراً . وحذفت ياء المتكلم من المنادى المضاف إليها على الاستعمال المشهور في نداء المضاف إلى ياء المتكلم .

ومعنى : { إن كان كبُر عليكم مقامي } شق عليكم وأحرجكم .

والكبَر : وفرة حجم الجسم بالنسبة لأمثاله من أجسام نوعه ، ويستعار الكبَر لكون وصف من أوصاف الذوات أو المعاني أقوى فيه منه في أمثاله من نوعه ، فقد يكون مدحاً كقوله تعالى : { وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين } [ البقرة : 45 ] ، ويكون ذماً كقوله : { كَبُرَتْ كلمة تخرج من أفواههم } [ الكهف : 5 ] ، ويستعار الكبَر للمشقة والحرج ، كقوله تعالى : { كَبُرَ على المشركين ما تدعوهم إليه } [ الشورى : 13 ] وقوله : { وإن كان كَبُر عليك إعراضهم } [ الأنعام : 35 ] وكذلك هنا .

والمقام مصدر ميمي مرادف للقيام . وقد استعمل هنا في معنى شأن المرء وحاله كما في قوله تعالى : { ولمَن خاف مقام ربه جنتان } [ الرحمن : 46 ] ، وقوله : { قال الذين كفروا للذين آمنوا أي الفريقين خير مَقاماً } [ مريم : 73 ] أي خير حالة وشأناً . وهو استعمال من قبيل الكناية ، لأن مكان المرء ومقامه من لوازم ذاته ، وفيهما مظاهر أحواله .

وخَص بالذكر من أحواله فيهم تذكيره إياهم بآيات الله ، لأن ذلك من أهم شؤونه مع قومه ، فعطفه من عطف الخاص على العام . فمعنى : { كَبُر عليكم مقامي وتذكيري } سئمتم أحوالي معكم وخاصة بتذكيري بآيات الله .

وتجهم الحق على أمثالهم شنشنة المتوغلين في الفساد المأسورين للهوى إذ تقع لديهم الدعوة إلى الإقلاع عنه والتثويب بهم إلى الرشاد موقعاً مُرّ المَذاق من نفوسهم ، شديد الإيلام لقلوبهم ، لما في منازعة الحق نفوسهم من صَولة عليها لا يستطيعون الاستخفاف بها ولا يطاوعهم هواهم على الإذعان إليها ، فيتورطون في حيرة ومنازعة نفسانية تثقل عليهم ، وتشمئز منها نفوسهم ، وتكدر عليهم صفو انسياقهم مع هواهم . وإضافة التذكير إلى ضميره من إضافة المصدر إلى فاعله .

والباء في { بآيات الله } لتأكيد تعدية المصدر إلى مفعوله الثاني ، والمفعولُ الأول محذوف ، والتقدير : تذكيري إياكم .

و{ آيات الله } مفعول ثان للتذكير .

يقال : ذكرته أمراً نسيه ، فتعديته بالباء لتأكيد التعدية كقوله تعالى : { وذكرهم بأيام الله } [ إبراهيم : 5 ] ، وقول مسور بن زيادةَ الحارثي :

أذَكَّر بالبقيا على من أصابني *** وبقياي أني جاهد غير مؤتلي

ولذلك قالوا في قوله تعالى : { وامسحوا برؤوسكم } [ المائدة : 6 ] أن الباء لتأكيد اللصوق أي لصوق الفعل بمفعوله .

وآيات الله : دلائل فضله عليهم ، ودلائل وحدانيته ، لأنهم لما أشركوا بالله فقد نسوا تلك الدلائل ، فكان يذكرهم بها ، وذلك يُبرمهم ويحرجهم .

وجملة : { فعلى الله توكلت } جواب شرط { إن كان كبُر عليكم مقامي } باعتبار أن ذلك الشرط تضمن أن إنكاره عليهم قد بلغ من نفوسهم ما لا طاقة لهم بحمله ، وأنهم متهيئون لمدافعته فأنبأهم أن احتمال صدور الدفاع منهم ، وهم في كثرة ومنعَة وهو في قلة وضعف ، لا يصُده عن استمرار الدعوة ، وأنه وإن كان بينهم وحيداً فذلك يوهنه لأنه متوكل على الله . ولأجل هذا قدم المجرور على عامله في قوله : { فعلى الله توكلت } أي لا على غيره .

والتوكل : التعويل على من يدبر أمره . وقد مر عند قوله : { فإذا عزمت فتوكل على الله } في سورة [ آل عمران : 159 ] .

والفاء في { فأجمعوا أمركم } للتفريع على جملة { على الله توكلت } فللجملة المفرعة حكم جواب الشرط لأنها مفرعة على جملة الجواب ، ألا ترى أنه لولا قصده المبادرة بإعلامهم أنه غير مكترث بمناواتهم لكان مقتضى ظاهر الكلام أن يقول : إن كان كبُر عليكم مقامي الخ ، فأجمعوا أمركم فإني على الله توكلت ، كما قال هود لقومه { فكيدوني جميعاً ثم لا تنظرون إني توكلت على الله ربي وربكم } [ هود : 55 ، 56 ] .

وإجماع الأمر : العزم على الفعل بعد التردد بين فِعله وفعل ضده . وهوَ مأخوذ من الجمع الذي هو ضد التفريق ، لأن المتردد في ماذا يعمله تكون عنده أشياء متفرقة فهو يتدبر ويتأمل فإذا استقر رأيه على شيء منها فقد جَمَع ما كان متفرقاً . فالهمزة فيه للجعل ، أي جعلَ أمره جمعاً بعد أن كان متفرقاً .

ويقولون : جاؤوا وأمرهم جميع ، أي مجموع غير متفرق بوجوه الاختلاف .

والأمر : هو شأنهم من قصد دفعه وأذاه وترددهم في وجوه ذلك ووسائله .

و { شركاءكم } منصوب في قراءة الجمهور على أنه مفعول معه . والواو بمعنى ( مع ) أي أجمعوا أمركم ومعكم شركاؤكم الذين تستنصرون بهم .

وقرأ يعقوب { وشركاؤكم } مرفوعاً عطفاً على ضمير { فأجمعوا } ، وسوغه الفصل بين الضمير وما عطف عليه بالمفعول . والمعنى : وليجْمَع شركاؤكم أمرَهم .

وصيغة الأمر في قوله : { فأجمعوا } مستعملة في التسوية ، أي أن عزمهم لا يضيره بحيث هو يغريهم بأخذ الأهبة التامة لمقاومته . وزاد ذكر شركائهم للدلالة على أنه لا يخشاها لأنها في اعتقادهم أشد بطشاً من القوم ، وذلك تهكم بهم ، كما في قوله تعالى : { قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون } [ الأعراف : 195 ] .

وعطْف جملة : { ثم لا يكن أمركم عليكم غُمة } ب { ثم } الدالة على التراخي في الرتبة لما تتضمنه الجملة الثانية من الترقي في قلة مبالاته بما يُهيئونه له من الضر بحيث يتصدى لهم تصدي المشير بما يسهل لهم البلوغ إلى الإضرار به الذي ينوونه وإزالة العوائق الحائلة دون مقصدهم .

وجاء بما ظاهره نهي أمرهم عن أن يكون غمة عليهم مبالغة في نهيهم عن التردد في تبين الوصول إلى قصدهم حتى كأنّ شأنهم هو المنهي عن أن يكون التباساً عليهم ، أي اجتهدوا في أن لا يكون ذلك .

والغمة : اسم مصدر للغم . وهو الستر . والمراد بها في مثل هذا التركيب الستر المجازي ، وهو انبهام الحال ، وعدم تبين السداد فيه ، ولعل هذا التركيب جرى مجرى المثل فقد قال طرفة من قبل :

لعمرك ما أمري علي بغمة *** نهاري ولا ليلي علي بسرمد

وإظهار لفظ الأمر في قوله : { ثم لا يكن أمركم عليكم غمة } مع أنه عين الذي في قوله : { فأجمعوا أمركم } لكون هذا التركيب مما جرى مجرى المثل فيقتضي أن لا تغير ألفاظه .

و ( ثم ) في قوله : { ثم اقضوا إلي } للتراخي في الرتبة ، فإن رتبة إنفاذ الرأي بما يزمعون عليه من أذاهُ أقوى من تدبير ذلك ، ومن رتبة إجماع الرأي عليه فهو ارتقاء من الشيء إلى أعلى منه ، فعطف ب ( ثم ) التي تفيد التراخي في الرتبة في عطفها الجمل .

و { اقضُوا } أمر من القضاء ، فيجوز أن يكون من القضاء بمعنى الإتمام والفصل ، أي انفذوا ما ترونه من الإضرار بي . ويجوز أن يكون من القضاء بمعنى الحكم ، وهو قريب من الوجه الأول ، أي أنفذوا حكمكم .

وعدي ب ( إلى ) دون ( على ) لأنه ضمن معنى الإبلاغ والإيصال تنصيصاً على معنى التنفيذ بالفعل ، لأن القضاء يكون بالقول فيعقبه التنفيذ أو الإرجاء أو العفو ، ويكون بالفعل ، فهو قضاء بتنفيذ . ويسمى عند الفقهاء بالقضاء الفعلي .

وقوله : { ولا تُنظرون } تأكيد المدلول التضمين المشار إليه بحرف ( إلى ) . والإنظار التأخير ، وحذفت ياء المتكلم من { تنظرون } للتخفيف ، وهو حذف كثير في فصيح الكلام ، وبقاء نون الوقاية مشعر بها .