التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي  
{۞وَٱتۡلُ عَلَيۡهِمۡ نَبَأَ نُوحٍ إِذۡ قَالَ لِقَوۡمِهِۦ يَٰقَوۡمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيۡكُم مَّقَامِي وَتَذۡكِيرِي بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ فَعَلَى ٱللَّهِ تَوَكَّلۡتُ فَأَجۡمِعُوٓاْ أَمۡرَكُمۡ وَشُرَكَآءَكُمۡ ثُمَّ لَا يَكُنۡ أَمۡرُكُمۡ عَلَيۡكُمۡ غُمَّةٗ ثُمَّ ٱقۡضُوٓاْ إِلَيَّ وَلَا تُنظِرُونِ} (71)

وبعد أن ساقت السورة الكريمة ما ساقت من الأدلة على وحدانية الله وعلى صدق رسوله - صلى الله عليه وسلم - وعلى حسن عاقبة المؤمنين وسوء عاقبة المكذبين . . بعد كل ذلك تحدثت عن بعض قصص الأنبياء مع أقوامهم ، فبدأت بجانب من قصة نوح - عليه السلام - مع قومه ، وكيف أن الله - تعالى - أغرقهم بعد أن تمادوا في ضلالهم ، فقال - سبحانه - :

{ واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ . . . } .

قال الإِمام الرازي : " اعلم أنه - سبحانه - لما بالغ في تقرير الدلائل والبينات وفى الجواب عن الشبه والسؤالات ، شرع بعد ذلك في بيان بعض قصص الأنبياء - عليهم السلام - لوجوه :

أحدها : أن الكلام إذا طال في تقرير نوع من أنواع العلوم ، فربما حصل نوع من أنواع الملالة ، فإذا انتقل الإِنسان من ذلك الفن من العلم إلى فن آخر ، انشرح صدره ، ووجد في نفسه رغبة جديدة .

وثانيها : ليكون للرسول - صلى الله عليه وسلم - ولأصحابه ، أسوة بمن سلف من الأنبياء ، فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - إذا سمع أن معاملة الكفار لأنبيائهم سيئة . . خف ذلك على قلبه ، لأن المصيبة إذا عمت خفت .

وثالثها : أن الكفار إذا سمعوا هذه القصص ، وعلموا أن العاقبة للمتقين كان ذلك سببا في انكسار قلوبهم ، ووقوع الخوف والوجل في نفوسهم . وحينئذ يقلوعون عن أنواع الإِيذاء والسفاهة . . . " .

ونوح - عليه السلام - : واحد من أولى العزم من الرسل ، وينتهي نسبة إلى شيث بن آدم - عليه السلام - وقد ذكر في القرآن في ثلاثة وأربعين موضعا .

وكان قومه يعبدون الأصنام ، فأرسل الله إليهم نوحاً ليدلهم على طريق الرشاد .

وقد تكررت قصته مع قومه في سورة الأعراف ، وهود ، والمؤمنون ، ونوح . . بصورة أكثر تفضيلاً .

أما هنا في سورة يونس فقد جاءت بصورة مجملة ، لأن الغرض منها هنا ، إبراز جانب التحدي من نوع لقومه ، بعد أن مكث فيهم زمانا طويلاً ، يدعوهم إلى عبادة الله وحده ، وترك عبادة غيره .

والمعنى : واتل - يا محمد - على مسامع هؤلاء المشركين الذين مردوا على افتراء الكذب ، نبأ نوح - عليه السلام - مع قومه المغترين بأموالهم وكثرتهم ليتدبروا ما في هذا النبأ من عظات وعبر . وليعلموا أن سنة الله - تعالى - قد اقتضت أن يجعل العاقبة للمتقين .

والمقصود من هذه التلاوة ، دعوة مشركي مكة وأمثالهم ، إلى التدبر فيما جرى للظالمين من قبلهم ، لعلهم بسبب هذا التدبر والتأمل يثوبون إلى رشدهم ويتبعون الدين الحق الذي جاءهم به نبيهم محمد - صلى الله عليه وسلم - .

وقوله : { ياقوم إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ الله فَعَلَى الله تَوَكَّلْتُ . . } بيان لما قاله لهم بعد أن مكث فيهم زمنا طويلا ، ، وسمع منهم ما سمع من استهزاء بدعوته ، ، وتطاول على أتباعه .

أى : قال نوح لقومه بعد أن دعاهم ليلا ونهارا : يا قوم إن كان { كَبُرَ عَلَيْكُمْ } .

أى : شق وعظم عليكم { مَّقَامِي } فيكم ووجودي بين أظهركم عمرا طويلا { وَتَذْكِيرِي } إياكم بآيات الله الدالة على وحدانيته وقدرته ، ، والتي تستلزم منكم إخلاص العبادة له والشكر لنعمه .

إن كان كبر عليكم ذلك فعلى الله وحده توكلت ، وإليه وحده فوضت أمري ولن يصرفني عن الاستمرار في تبليغ ما أمرنى بتبليغه وعد أو وعيد منكم .

وخاطبهم - عليه السلام - بقوله : { ياقوم } استمالة لقلوبهم ، وإشعار لهم بأنهم أهله وأقرباؤه الذين يحب لهم الخير ، ويكره لهم الشر .

وجملة { فَعَلَى الله تَوَكَّلْتُ } جواب الشرط . وقيل جواب الشرط محذوف والتقدير : إن كان كبر عليكم ذلك فافعلوا ما شئتم فإني على الله وحده توكلت في تبليغ دعوته لكم .

وقوله : { فأجمعوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَآءَكُمْ } معطول على ما قبله .

والفعل { أجمعوا } بقطع الهمزة مأخذو من أجمعت على الأمر إذا عزمت عليه عزما مؤكدا ووطنت نفسك على المضي فيه بدون تردد أو تقاعس .

والمراد بالأمر هنا : المكر والكيد والعداوة وما يشبه بذلك .

والمراد بشركائهم : أصنامهم التي عبدوها من دون الله وظنوا فيها النفع والضرر والتمسوا فيها العون والنصرة .

والمعنى : أن نوحا - عليه السلام - قد قال قولمه بصراحة ووضوح : يا قوم إن كان قد شق عليكم مقامي فيكم ، وتذكيري بآيات الله الدالة على وحدانيته فأجمعوا ما تريدون جمعه من مكر وكيد بي ، ثم ادعوا شركاءهم ليساعدوكم في ذلك فإنى ماض في طريقى الذي أمرنى الله به ، بدون مبالاة بمكركم وبدون اهتمام بكيدكم .

قال الآلوسى : " وقوله { وَشُرَكَآءَكُمْ } منصوب على أنه مفعول معه لأن الشركاء عازمون لا معزوم عليهم . وقيل إنه منصوب بالعطف على قوله { أَمْرَكُمْ } بحذف المضاف أي فأجمعوا أمركم وأمر شركائكم .

وقرأ نافع : فاجمعوا بوصل الهمزة وفتح الميم من جع وعطف الشركاء على الأمر في هذه القراءة ظاهر بناء على أنه يقال : جمعت شركائي ، كما يقال جمعت أمرى . . . "

وقوله : { ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً } معطوف على ما قبله ، ومؤكد لمضمونه .

وكلمة { غُمَّةً } بمعنى الستر والخفاء . يقال : غم على فلان الأمر أى : خفى عليه واستتر .

ومنه الحديث الشريف : " صوموا لرؤيته - أى الهلال - وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما " أى فإن استتر وخفى عليكم الهلال وحال دون رؤيتكم له حائل من غيم أو ضباب فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما .

أى : أجمعوا ما تريدون جمعه لي من مكر وكيد واستعينوا على ذلك بشركائكم ثم لا يكن أمركم ، الذي أجمعتم على تنفيذه فيه شيء من الستر أو الخفاء أو الالتباس الذي يجعلكم مترددين في المضي فيه أو متقاعسين عن مجاهرتي بما تريدون فعله معى .

ومنهم من يرى أن كلمة { غُمَّةً } هنا بمعى الغم كالكربة بمعنى الكرب أى : ثم لا يكن حالكم غما كائنا عليكم بسبب مقامى فيكم وتذكيرى إياكم بآيات الله .

وقد أشار صاحب الكشاف إلى هذيبن الوجهين فقال : " فإن قلت : ما معنى الأمرين : أمرهم الذي يجمعونه وأمرهم الذي لا يكون عليهم غمة ؟

قلت : أما الأمر الأول فالقصد إلى إهلاكه يعني : فاجمعوا ما تريدون من إهلاكى واحتشدوا فيه ، وابذلوا وسعكم في كيدي .

وإنما قال ذلك إظهارا لقلة مبالاته بهم وثقته بما وعده به ربه من كلاءته وعصمته إياه ، وأنهم لن يجدوا إليه سبيلا .

وأما الثانى ففيه وجهان : أحدهما أن يراد مصاحبتهم له وما كانوا فيه معه من الحال الشديدة عليهم ، المكروهة عندهم . يعني : ثم أهلكوني لئلا يكون عيشكم بسببي غصة عليكم . وحالكم عليكم غمة . أى : غما وهما . والغم والغمة كالكرب والكربة .

وثانيهما : أن يراد به ما أريد بالأمر الأول . والغمة السترة من غمة إذا ستره ، وفى الحديث " لا غمة في فرائض الله " أى لا تستر ولكن يجاهر بها .

يعنى : ولا يكن قصدكم إلى إهلاكى مستورا عليكم . ولكن مكشوفا مشهورا تجاهرونني به " .

وقوله : { ثُمَّ اقضوا إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونَ } زيادة في تحديهم وإثارتهم .

والقضاء هنا بمعنى الأداء ، من قولهم : قضى المدين للدائن دينه ، إذا أداه إليه ، وقضى فلان الصلاة . أى أداها بعد مضي وقتها .

أى : ثم أدوا إلى ذلك الامر الذي تريدون أداءه من إيذائى أو إهلاكى بدون إنظار أو إمهال .

ويصح أن يكون القضاء هنا بمعنى الحكم ، أى : ثم احكموا على بما تريدون من أحكام ، ولا تتركوا لي مهلة في تنفيذها ، بل نفذوها على في الحال .

فأنت ترى في هذه الآية الكريمة كيف أن نوحا - عليه السلام - كان في نهاية الشجاعة في مخاطبته لقومه ، بعد أن مكث فيهم مكث وهو يدعوهم إلى عبادة الله - تعالى - وحده .

فهو - أولا - يصارحهم بأنه ماض في طريقه الذي أمره الله بالمضي فيه ، وهو تذكيرهم بالدلائل الدالة على وحدانية الله ، وعلى وجوب إخلاص العبادة له سواء أشق عليهم هذا التذكير أم لم يشق ، وأنه لا اعتماد له على أحد إلا على الله وحده .

وهو - ثانيا - يتحداهم بأن يجمعوا أمرهم وأمر شركائهم وأن يأخذوا أهبتهم لكيده وحربه .

وهو - ثالثا - يطالبهم بأن يتخذوا قراراتهم بدون تستر أو خفاء ، فإن الأمر لا يحتاج إلى غموض أو تردد ، لأن حاله معهم قد أصبح واضحا وصريحا .

وهو - رابعا - يأمرهم بأن يبلغوه ما توصلوا إليه من قرارات وأحكام وأن ينفذوها عليه بدون تريث أو انتظار ، حتى لا يتركوا له فرصة للاستعداد للنجاة من مكرهم .

وهكذا نرى نوحا - عليه السلام - يتحدى قومه تحديا صريحا مثيرا . حتى إنه ليغريهم بنفسه ، ويفتح لهم الطريق لإِيذائه وإهلاكه - إن استطاعوا ذلك - .

وما لجأ - عليه السلام - إلى هذا التحدي الواضح المثير إلا لأنه كان معتمدا على الله - تعالى - الذي تتضاءل أمام قوته كل قوة وتتهاوا إزاء سطوته كل سطوة ويتصاغر كل تدبير وتقدير أمام تدبيره وتقديره .

وهكذا نرى القرآن الكريم يسوق للدعاة في كل زمان تلك المواقف المشرفة لرسل الله - عليهم الصلاة والسلام - لكي يقتدوا بهم في شجاعتهم ، وفى اعتمادهم على الله وحده ، وفى ثباتهم أمام الباطل مهما بلغت قوته ، واشتد جبروته .