فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{۞وَٱتۡلُ عَلَيۡهِمۡ نَبَأَ نُوحٍ إِذۡ قَالَ لِقَوۡمِهِۦ يَٰقَوۡمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيۡكُم مَّقَامِي وَتَذۡكِيرِي بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ فَعَلَى ٱللَّهِ تَوَكَّلۡتُ فَأَجۡمِعُوٓاْ أَمۡرَكُمۡ وَشُرَكَآءَكُمۡ ثُمَّ لَا يَكُنۡ أَمۡرُكُمۡ عَلَيۡكُمۡ غُمَّةٗ ثُمَّ ٱقۡضُوٓاْ إِلَيَّ وَلَا تُنظِرُونِ} (71)

{ واتل عليهم } أي على الكفار المعاصرين لك المعارضين لما جئت به بأقوالهم الباطلة ، { نبأ نوح } أي خبره والنبأ هو الخبر الذي له خطر وشأن ، والمراد بعض ما جرى له مع قومه الذين كفروا بما جاء به كما فعله كفار قريش وأمثالهم .

{ إذ } أي وقت أن { قال لقومه } اللام لام التبليغ { يا قوم إن كان كبر } أي عظم وثقل { عليكم مقامي } من باب الإسناد المجازي كقولهم ثقل علي ظله والمقام بفتح الميم الموضع الذي يقام فيه ، وبالضم مكان الإقامة أو الإقامة نفسها وقد اتفق القراء هنا على الفتح .

وقرأ أبو رجاء وأبو مجلز وابن الجوزي بالضم ، قال ابن عطية : ولم يقرأ هنا الضم وكأنه لم يطلع على قراءة هؤلاء ، وكنى بالمقام عن نفسه كما يقال فعلته لمكان فلان أي لأجله ومنه { ولمن خاف مقام ربه } أي خاف ربه ، ويجوز أن يراد بالمقام المكث أي شق عليكم مكثي بين أظهركم لأنه مكث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما ، ويجوز أن يراد بالمقام القيام لأن الواعظ يقوم حال وعظه .

والمعنى إن كان كبر عليكم قيامي بالوعظ في مواطن اجتماعكم { و } كبر عليكم { تذكيري } لكم { بآيات الله } التكوينية والتنزيلية { فعلى الله توكلت } أي دمت على تخصيص التوكل به تعالى ، وهذه الجملة جواب الشرط والمعنى إني لا أقابل ذلك منكم إلا بالتوكل على الله فإن ذلك دأبي الذي أنا عليه قديما وحديثا ويجوز أن يريد إحداث مرتبة مخصوصة من مراتب التوكل ويجوز أن يكون جواب الشرط فأجمعوا كما يأتي قاله الأكثرون والجملة اعتراض كقولك إن كنت أنكرت علي شيئا فالله حسبي وثقتي .

وقيل { فأجمعوا أمركم } عطف على الجواب ، وجزم السفاقسي بأن جوابه محذوف أي فافعلوا ما شئتم والمعنى اعزموا عليه ، من أجمع الأمر إذا نواه وعزم عليهم قاله الفراء وروي عنه أجمع الشيء أعده وقال مؤرج السدوسي : أجمع الأمر أفصح من أجمع عليه : وقال أبو الهيثم : أجمع أمره جعله جميعا بعدما كان متفرقا وتفرقه أن يقول مرة افعل كذا ومرة أفعل كذا فلما عزم على أمر واحد فقد جمعه أي جعله جميعا .

فهذا هو الأصل في الإجماع ثم صار بمعنى العزم والتصميم يقال أجمع في المعاني وجمع في الأعيان وقد يستعمل كل واحد مكان الآخر ، وفي التنزيل { فجمع كيده } قال ابن الأنباري : المراد من الأمر هنا وجوه كيدهم ومكرهم فالتقدير لا تدعو من أمركم شيئا إلا أحضرتموه .

{ وشركاءكم } أي ادعوهم لنصرتكم قال الكسائي والفراء ، وقال الزجاج والفارسي : والمعنى مع شركائكم ، ولم يذكر الزمخشري غير هذا وقيل أجمعوا شركاءكم وفي مصحف أبي : وادعوا شركاءكم ، قال النحاس وغيره : وقراءة الرفع بعيدة ، وقال المهدوي : يجوز رفع الشركاء بالابتداء والخبر المحذوف أي شركاؤكم ليجمعوا أمرهم ونسبة ذلك إلى الشركاء مع كون الأصنام لا تعقل لقصد التوبيخ والتقريع لمن عبدها .

{ ثم لا يكن أمركم عليكم غمة } أي خفيا ، والغمة التغطية من قولهم غم الهلال إذا استتر أي ليكن أمركم ظاهرا منكشفا قاله الزجاج ، وقال الهيثم : معناه لا يكن أمركم مبهما وقيل أن الغمة ضيق الأمر ، كذا روي عن أبي عبيدة .

والمعنى لا يكن أمركم عليكم بمصاحبتي والمجاملة لي ضيقا شديدا بل ادفعوا هذا الضيق والشدة بما شئتم وقدرتم عليه ، وعلى الوجهين الأولين يكون المراد بالأمر الثاني هو الأمر الأول وعلى الثالث يكون المراد غيره وإنما نسب عدم الستر الذي هو عدم الغمة إلى الأمر مبالغة .

{ ثم اقضوا إلي } ذلك الأمر الذي تريدونه بي ، وأصل اقضوا من القضاء وهو الأحكام والمعنى احكموا ذلك الأمر .

قال الأخفش والكسائي : هو مثل { وقضينا إليه ذلك الأمر } أي أنهيناه إليه وأبلغناه إياه . وقيل معناه ثم امضوا إلي ، قال النحاس : هذا قول صحيح في اللغة ومنه قضى الميت مضى . وعن بعض القراء ثم أفضوا بالفاء أي توجهوا { ولا تنظرون } أي ثم لا تمهلوني ولا تؤخروني ، بل عجلوا أمركم ونفذوا واصنعوا ما بدا لكم . وفي هذا الكلام من نوح عليه السلام ما يدل على وثوقه بنصر ربه وعدم مبالاته بما يتوعده به قومه