المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{ذَٰلِكَۖ وَمَن يُعَظِّمۡ حُرُمَٰتِ ٱللَّهِ فَهُوَ خَيۡرٞ لَّهُۥ عِندَ رَبِّهِۦۗ وَأُحِلَّتۡ لَكُمُ ٱلۡأَنۡعَٰمُ إِلَّا مَا يُتۡلَىٰ عَلَيۡكُمۡۖ فَٱجۡتَنِبُواْ ٱلرِّجۡسَ مِنَ ٱلۡأَوۡثَٰنِ وَٱجۡتَنِبُواْ قَوۡلَ ٱلزُّورِ} (30)

وقوله تعالى : { ذلك } يحتمل أن يكون في موضع رفع بتقدير فرضكم ذلك أو الواجب ذلك ، ويحتمل أن يكون في موضع نصب بتقدير امتثلوا ذلك ونحو هذا الإضمار ، وأحسن الأشياء مضمراً أحسنها ومظهراً ونحو هذه الإشارة البليغة قول زهير : [ البسيط ]

هذا وليس كمن يعطي بخطته . . . وسط الندى إذا ما قائل نطقا{[8370]}

والحرمات المقصودة ها هنا في أفعال الحج المشار إليها في قوله { ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم } ويدخل في ذلك تعظيم المواضع ، قاله ابن زيد وغيره ، ووعد على تعظيمها بعد ذلك تحريضاً ، وتحريصاً ، ثم لفظ الآية بعد ذلك يتناول كل حرمة لله تعالى في جميع الشرع .

وقوله تعالى : { فهو خير } ، ظاهره أنها ليست للتفضيل وإنما هي عدة بخير ، ويحتمل أن يجعل { خير } للتفضيل على تجوز في هذا الموضع ، وقوله تعالى : { أحلت } إشارة إلى ما كانت العرب تفعله من تحريم أشياء برأيها كالبحيرة والسائبة فأذهب الله تعالى ذلك وأحل لهم جميع { الأنعام إلا ما يتلى } عليهم في كتاب الله تعالى . في غير موضع ثم أمرهم باجتناب { الرجس من الأوثان } والكلام يحتمل معنيين أحدهما أن تكون { من } لبيان الجنس فيقع نهيه عن رجس الأوثان فيقع نهيها في غير هذا الموضع ، والمعنى الثاني أن تكون { من } لابتداء الغاية فكأنه نهاهم عن الرجس عاماً ثم عين لهم مبدأ الذي منه يلحقهم إذ عبادة الوثن جامعة لكل فساد ورجس ، ويظهر أن الإشارة إلى الذبائح التي كانت للأوثان فيكون هذا مما يتلى عليهم ، ومن قال { من } للتبعيض قلب معنى الآية ويفسده ، والمروي عن ابن عباس وابن جريج أن الآية نهي عن عبادة الأوثان ، و { الزور } ، عام في الكذب والكفر وذلك أن كل ما عدا الحق فهو كذب وباطل وزور ، وقال ابن مسعود ، وأيمن بن خريم{[8371]} وابن جريج : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «عدلت شهادة الزور بالشرك » ، وتلا هذه الآية{[8372]} ، و { الزور } مشتق من الزور وهو الميل ومنه في جانب فلان زور ويظهر أن الإشارة في زور أقوالهم في تحريم وتحليل مما كانوا قد شرعوه في الأنعام .


[8370]:البيت من قصيدة زهير بن أبي سلمى التي يمدح بها هرم بن سنان وأباه وإخوته، والتي بدأها بقوله: إن الخليط أجد البين فانفرقا وعلق القلب من أسماء ما علقا والبيت يصف هرما بالبلاغة والفصاحة، وبأنه لا يعيا بخطته في الندي، أي في مجلس القوم، وذلك بعد أن وصفه في الأبيات السابقة بالكرم وبالشجاعة، والشاهد فيه الإشارة البليغة بقوله في أول البيت: "هذا".
[8371]:هو أيمن بن خريم ـ بالمعجمة ثم الراء مصغرا ـ ابن الأخرم، الأسدي، أبو عطية الشامي الشاعر، مختلف في صحبته، وقال العجلي: تابعي ثقة.
[8372]:أخرج أحمد، والترمذي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن مردويه، عن أيمن ابن خريم قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا فقال: (يا أيها الناس، عدلت شهادة الزور إشراكا بالله ـ ثلاثا ـ ثم قرأ: {فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور}، وأخرج عبد الرزاق، والفريابي، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، والطبراني، والخرائطي في مكارم الأخلاق، والبيهقي، عن ابن مسعود قال: شهادة الزور تعدل الشرك بالله، ثم قرأ: {فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور}. والحديث المشهور في ذلك هو ما رواه البخاري، ومسلم، والترمذي، وأحمد، عن أبي بكرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين ـ وكان متكئا فجلس ـ فقال: ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور، فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت).
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{ذَٰلِكَۖ وَمَن يُعَظِّمۡ حُرُمَٰتِ ٱللَّهِ فَهُوَ خَيۡرٞ لَّهُۥ عِندَ رَبِّهِۦۗ وَأُحِلَّتۡ لَكُمُ ٱلۡأَنۡعَٰمُ إِلَّا مَا يُتۡلَىٰ عَلَيۡكُمۡۖ فَٱجۡتَنِبُواْ ٱلرِّجۡسَ مِنَ ٱلۡأَوۡثَٰنِ وَٱجۡتَنِبُواْ قَوۡلَ ٱلزُّورِ} (30)

{ ذلك وَمَن يُعَظِّمْ حرمات الله فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ }

اسم الإشارة مستعمل هنا للفصل بين كلامين أو بين وجهين من كلام واحد ، والقصد منه التنبيه على الاهتمام بما سيذكر بعده . فالإشارة مرادٌ بها التنبيه ، وذلك حيث يكون ما بعده غيرَ صالح لوقوعه خبراً عن اسم الإشارة فيتعين تقدير خبر عنه في معنى : ذلك بيانٌ ، أو ذكرٌ ، وهو من أساليب الاقتضاب في الانتقال . والمشهور في هذا الاستعمال لفظ ( هذا ) كما في قوله تعالى : { هذا وإن للطاغين لشر مئاب } [ ص : 55 ] وقولِ زهير :

هَذا وليس كمن يَعْيَا بخطبته *** وسْط النّدي إذا ما قائل نَطقا

وأوثر في الآية اسم إشارة البعيد للدلالة على بعد المنزلة كناية عن تعظيم مضمون ما قبله .

فاسم الإشارة مبتدأ حذف خبره لظهور تقديره ، أي ذلك بيان ونحوه . وهو كما يقدم الكاتب جملة من كتابه في بعض الأغراض فإذا أراد الخوض في غرض آخر ، قال : هذا وقد كان كذا وكذا .

وجملة { ومن يعظم } الخ . . . معترضة عطفاً على جملة { وإذا بوأنا لإبراهيم مكان البيت } [ الحج : 26 ] عطف الغرض على الغرض . وهو انتقال إلى بيان ما يجب الحفاظ عليه من الحنيفية والتنبيه إلى أن الإسلام بُنِي على أساسها .

وضمير { فهو } عائد إلى التعظيم المأخوذ من فعل { ومن يعظم حرمات الله } . والكلام موجّه إلى المسلمين تنبيهاً لهم على أنّ تلك الحرمات لم يعطل الإسلام حرمتَها ، فيكون الانتقال من غرض إلى غرض ومن مخاطب إلى مخاطب آخر . فإن المسلمين كانوا يعتمرون ويحجون قبل إيجاب الحجّ عليهم ، أي قبل فتح مكة .

والحُرمات : جمع حُرُمة بضمتين : وهي ما يجب احترامه .

والاحترام : اعتبار الشيء ذَا حَرَم ، كناية عن عدم الدخول فيه . أي عدم انتهاكه بمخالفة أمر الله في شأنه ، والحُرمات يشمل كل ما أوصَى الله بتعظيم أمره فتشمل مناسك الحج كلها .

وعن زيد بن أسلم : الحرمات خمس : المسجد الحرام ، والبيت الحرام ، والبلد الحرام ، والشهر الحرام ، والمُحرم ما دام محرماً ، فقصَرَه على الذوات دون الأعمال . والذي يظهر أن الحرمات يشمل الهدايا والقلائد والمشعر الحرام وغير ذلك من أعمال الحجّ ، كالغسل في مواقعه ، والحلق ومواقيته ومناسكه .

{ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الانعام إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ فاجتنبوا الرجس مِنَ الاوثان واجتنبوا قَوْلَ الزور }

لما ذكر آنفاً بهيمة الأنعام وتعظيم حرمات الله أعقب ذلك بإبطال ما حرمه المشركون على أنفسهم من الأنعام مثل : البَحيرة ، والسائبة ، والوصيلة ، والحَامي وبعضضِ ما في بطونها . وقد ذكر في سورة الأنعام .

واستثني منه ما يتلى تحريمه في القرآن وهو ما جاء ذكره في [ سورة الأنعام : 145 ] في قوله : { قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً } الآيات وما ذكر في سورة النحل وكلتاهما مكيتان سابقتان .

وجيء بالمضارع في قوله : { إلا ما يتلى عليكم } ليشمل ما نزل من القرآن في ذلك مما سبق نزولَ سورة الحجّ بأنه تلي فيما مضى ولم يزل يتلى ، ويشمل ما عسى أن يَنزل من بعد مثل قوله : { ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة } الآية في [ سورة العقود : 103 ] .

والأمر باجتناب الأوثان مستعمل في طلب الدوام كما في قوله : { يأيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله } [ النساء : 136 ] . وفرع على ذلك جملة معترضة للتصريح بالأمر باجتناب ما ليس من حرمات الله ، وهو الأوثان .

واجتناب الكذب على الله بقولهم لبعض المحرمات { هذا حلال } مثل الدم وما أهلّ لغير الله به ، وقولهم لبعض : هذا حرام مثل البَحيرة ، والسائبة . قال تعالى : { ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب } [ النحل : 116 ] .

والرّجس : حقيقته الخبث والقذارة ، وتقدم في قوله تعالى : { فإنه رجس } في [ سورة الأنعام : 145 ] .

ووصف الأوثان بالرجس أنها رجس معنوي لِكون اعتقاد إلهيتها في النفوس بمنزلة تعلّق الخبث بالأجساد فإطلاق الرجس عليها تشبيه بليغ .

و ( مِن ) في قوله من الأوثان بيان لمجمل الرجس ، فهي تدخل على بعض أسماء التمييز بياناً للمراد من الرجس هنا لا أن معنى ذلك أن الرجس هو عين الأوثان بل الرجس أعمّ أريد به هنا بعض أنواعه فهذا تحقيق معنى ( من ) البيانية .