البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{ذَٰلِكَۖ وَمَن يُعَظِّمۡ حُرُمَٰتِ ٱللَّهِ فَهُوَ خَيۡرٞ لَّهُۥ عِندَ رَبِّهِۦۗ وَأُحِلَّتۡ لَكُمُ ٱلۡأَنۡعَٰمُ إِلَّا مَا يُتۡلَىٰ عَلَيۡكُمۡۖ فَٱجۡتَنِبُواْ ٱلرِّجۡسَ مِنَ ٱلۡأَوۡثَٰنِ وَٱجۡتَنِبُواْ قَوۡلَ ٱلزُّورِ} (30)

الوثن : قال شمر كل تمثال من خشب أو حجارة أو ذهب أو فضة أو نحاس ونحوها ، وكانت العرب تنصبها وتعبدها ويطلق على الصليب . قال الأعشى :

يطوف العفاة بأبوابه *** كطوف النصارى بباب الوثن

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعديّ بن حاتم وقد رأى في عنقه صليباً : ألق الوثن عنك . واشتقاقه من وثن الشيء أقامه في مكانه وثبت ، والواثن المقيم الراكز في مكانه . وقال رؤبة :

على أخلاء الصفاء الوثن

يعني الدوم على العهد .

{ ذلك } خبر مبتدأ محذوف قدّره ابن عطية فرضكم { ذلك } أو الواجب { ذلك } وقدّره الزمخشري الأمر أو الشأن { ذلك } قال كما يقدم الكاتب جملة من كتابه في بعض المعاني ، ثم إذا أراد الخوض في معنى آخر قال : هذا وقد كان كذا انتهى .

وقيل : مبتدأ محذوف الخبر أي { ذلك } الأمر الذي ذكرته .

وقيل في موضع نصب تقديره امتثلوا { ذلك } ونظير هذه الإشارة البليغة قول زهير وقد تقدم له جمل في وصف هرم :

هذا وليس كمن يعيا بخطبته *** وسط الندى إذا ما ناطق نطقا

وكان وصفه قبل هذا بالكرم والشجاعة ، ثم وصفه في هذا البيت بالبلاغة فكأنه قال : هذا خلقه وليس كمن يعيا بخطبته ، والحرمات ما لا يحل هتكه وجميع التكليفات من مناسك الحج وغيرها حرمه ، والظاهر عمومه في جميع التكاليف ، ويحتمل الخصوص بما يتعلق بالحج وقاله الكلبي قال : ما أمر به من المناسك ، وعن ابن عباس هي جميع المناهي في الحج : فسوق وجدال وجماع وصيد .

وعن ابن زيد هي خمس المشعر الحرام ، والمسجد الحرام ، والبيت الحرام ، والشهر الحرام ، والمحرم حتى يحل .

وضمير { فهو } عائد على المصدر المفهوم من قوله { ومن يعظم } أي فالتعظيم { خير له عند ربه } أي قربة منه وزيادة في طاعته يثيبه عليها ، والظاهر أن خيراً هنا ليس أفعل تفضيل .

{ وأحلت لكم بهيمة الأنعام } دفعاً لما كانت عليه من تحريم أشياء برأيها كالبحيرة والسائبة ، ويعني بقوله { إلا ما يتلى عليكم } ما نص في كتابه على تحريمه ، والمعنى { ما يتلى عليكم } آية تحريمه .

ولما حث على تعظيم حرمات الله وذكر أن تعظيمها خير لمعظمها عند الله أتبعه الأمر باجتناب الأوثان وقول الزور لأن توحيد الله ونفي الشركاء عنه وصدق القول أعظم الحرمات ، وجمعا في قران واحد لأن الشرك من باب الزور لأن المشرك يزعم أن الوثن يستحق العبادة فكأنه قال { فاجتنبوا } عبادة { الأوثان } التي هي رأس الزور { واجتنبوا قول الزور } كله .

و { من } في { من الأوثان } لبيان الجنس ، ويقدر بالموصول عندهم أي الرجس الذي هو الأوثان ، ومن أنكر أن تكون { من } لبيان الجنس جعل { من } لابتداء الغاية فكأنه نهاهم عن الرجس عاماً ثم عين لهم مبدأه الذي منه يلحقهم إذ عبادة الوثن جامعة لكل فساد ورجس ، وعلى القول الأول يكون النهي عن سائر الأرجاس من موضع غير هذا .

قال ابن عطية : ومن قال إن { من } للتبعيض قلب معنى الآية فأفسده انتهى .

وقد يمكن التبعيض فيها بأن يعني بالرجس عبادة الأوثان ، وقد روي ذلك عن ابن عباس وابن جريج ، فكأنه قال : فاجتنبوا من الأوثان الرجس وهو العبادة لأن المحرم من الأوثان إنما هو العبادة ، ألا ترى أنه قد يتصور استعمال الوثن في بناء وغير ذلك مما لم يحرمه الشرع ؟ فكأن للوثن جهات منها عبادتها ، وهو المأمور باجتنابه وعبادتها بعض جهاتها ، ولما كان قول الزور معادلاً للكفر لم يعطف على الرجس بل أفرد بأن كرر له العامل اعتناء باجتنابه .

وفي الحديث : « عدلت شهادة الزور بالشرك » .