فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{ذَٰلِكَۖ وَمَن يُعَظِّمۡ حُرُمَٰتِ ٱللَّهِ فَهُوَ خَيۡرٞ لَّهُۥ عِندَ رَبِّهِۦۗ وَأُحِلَّتۡ لَكُمُ ٱلۡأَنۡعَٰمُ إِلَّا مَا يُتۡلَىٰ عَلَيۡكُمۡۖ فَٱجۡتَنِبُواْ ٱلرِّجۡسَ مِنَ ٱلۡأَوۡثَٰنِ وَٱجۡتَنِبُواْ قَوۡلَ ٱلزُّورِ} (30)

{ ذَلِكَ } أي الأمر ذلك ، وهذا وأمثاله يطلق ويذكر للفصل بين الكلامين أو بين طرفي كلام واحد كما يقدم الكاتب جملة من كلامه في بعض المعاني ، ثم إذا أراد الخوض في معنى آخر قال هذا ، وقد كان كذا ، قاله أبو حيان في البحر ، أو المعنى . افعلوا ذلك ، والمشار إليه هو ما سبق من أعمال الحج { وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ } جمع حرمة ، وهي ما لا يحل انتهاكه .

قال الزجاج : الحرمة ما وجب القيام به ، وحرم التفريط فيه وهي في هذه الآية ما نهى عنها ، ومنع من الوقوع فيها كالجدال والجماع والصيد ، والظاهر من الآية عموم كل حرمة في الحج وغيره ، كما يفيده اللفظ ، وإن كان السبب خاصا وتعظيمها ترك ملابستها .

قال مجاهد : الحرمة مكة والحج والعمرة وما نهى الله عنه من معاصيه كلها ، وقيل هي البيت الحرام ، والمشعر الحرام والمسجد الحرام والبلد الحرام ، والشهر الحرام ، وتعظيمها القيام بمراعاتها وحفظ حرمتها ، وقيل هي مناسك الحج ، وتعظيمها إقامتها وإتمامها .

{ فهو } أي فالتعظيم { خير له } من التهاون بشيء منها { عند ربه } يعني في الآخرة ، وقيل أن صيغة التفضيل هنا لا يراد بها معناها الحقيقي ، بل المراد أن ذلك التعظيم خير ينتفع به أي قربة وطاعة يثاب عليها عند الله فهو عدة بخير .

{ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ } أن تأكلوها بعد الذبح وهي الإبل والبقر والغنم كما تقدم { إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ } تحريمه في الكتاب العزيز من المحرمات وهي الميتة وما ذكر معها في آية المائدة فالاستثناء منقطع لما ذكر في آية المائدة بما ليس من جنس الأنعام كالدم ولحم الخنزير ، ويجوز أن يكون متصلا بأن يصرف إلى ما يحرم من بهيمة الأنعام بسبب عارض كالموت ونحوه ، وقيل وجه الانقطاع أنه ليس في الأنعام محرم ، قاله الشهاب والسمين ، وقيل في قوله : { إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم } .

{ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ } الرجس : القذر والوسخ وعبادة الأوثان قذر معنوي والوثن التمثال وأصله من وثن الشيء أي أقام في مقامه وسمى الصليب وثنا لأنه ينصب ويركز في مقامه فلا يبرح عنه ، والمراد اجتناب عبادة الأوثان وسماها رجسا لأنها سبب الرجس ، وهو العذاب ، وقيل جعلها سبحانه رجسا حكما والرجس النجس وليست النجاسة وصفا ذاتيا لها ، ولكنها وصف شرعي فلا تزول إلا بالإيمان كما أنها لا تزول النجاسة الحسية إلا بالماء ، قال الزجاج : { من } هنا لتخليص جنس من أجناس أي فاجتنبوا الرجس الذي هو وثن .

وقال ابن عباس : يقول اجتنبوا طاعة الشيطان في عبادة الأوثان { وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ } الذي هو الباطل وسمي زورا لأنه مائل عن الحق ، ومنه قوله تعالى : { تزاور عن كهفهم } وقوله : { مدينة زوراء } أي مائلة ، والمراد هنا قول الزور على العموم فهو تعميم بعد تخصيص ، فإن عبادة الأوثان رأس الزور ، والمشرك زاعم أن الوثن تحق له العبادة فأعظمه الشرك بالله بأي لفظ كان .

وقال الزجاج : المراد هنا تحليلهم بعض الأنعام وتحريمهم بعضها ، وقولهم : هذا حلال وهذا حرام ، وقيل المراد به شهادة الزور ، وقال ابن عباس : يعني الافتراء على الله والتكذيب به وقيل هو قول المشركين في تلبيتهم لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك .

أخرج أحمد والترمذي وابن المنذر وغيرهم عن أيمن بن حريم قال : قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا فقال : ( يا أيها الناس عدلت شهادة الزور شركا بالله ثلاثا ، ثم قرأ هذه الآية{[1239]} ، قال أحمد : غريب ولا نعرف لأيمن بن حريم سماعا من النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي بكرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟ ثلاثا ، قلنا بلى يا رسول الله ، قال الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين وكان متكئا فجلس فقال وقول الزور ألا وشهادة الزور ، فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت ) {[1240]} .


[1239]:الترمذي كتاب الشهادات باب 3.
[1240]:مسلم 87 ـ البخاري 1291.