{ وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذينَ يَبْخَلُونَ بِمَا ءَاتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُم بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ لَّقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ }
القراءات في قوله تعالى : { ولا يحسبن الذين يبخلون } كالتي تقدمت آنفاً في قوله { ولا يحسبن الذين كفروا } سواء ، وقال السدي وجماعة من المتأولين : الآية نزلت في البخل بالمال والإنفاق في سبيل الله وأداء الزكاة المفروضة ونحو ذلك ، قالوا : ومعنى : { سيطوقون بما بخلوا } هو الذي ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ما من ذي رحم يأتي ذا رحمه فيسأله عن فضل ما عنده فيبخل به عليه إلا خرج له يوم القيامة شجاع أقرع من الناس يتلمظ حتى يطوقه{[3742]} . والأحاديث في مثل هذا من منع الزكاة واكتناز المال كثيرة صحيحة{[3743]} . وقال ابن عباس : الآية إنما نزلت في أهل الكتاب وبخلهم ببيان ما علمهم الله من أمر محمد صلى الله عليه وسلم ، وقال ذلك مجاهد وجماعة من أهل التفسير ، وقوله تعالى { سيطوقون } على هذا التأويل معناه سيحملون عقاب ما بخلوا به ، فهو من الطاقة كما قال تعالى : { وعلى الذين يطيقونه }{[3744]} وليس من التطويق ، وقال إبراهيم النخعي : { سيطوقون } سيجعل لهم يوم القيامة طوق من نار ، وهذا يجري مع التأويل الأول الذي ذكرته للسدي وغيره ، وقال مجاهد : سيكلفون بأن يأتوا بمثل ما بخلوا به يوم القيامة ، وهذا يضرب مع قوله : إن البخل هو بالعلم الذي تفضل الله عليهم بأن علمهم إياه وإعراب قوله تعالى : { الذين يبخلون } رفع في قراءة من قرأ «يحسبن » بالياء من أسفل والمفعول الأول مقدر بالصلة تقديره «ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم من فضله بخلهم هو خيراً » ، والمفعول الثاني خيراً ، وهو فاصلة وهي العماد عند الكوفيين ، ودل قوله : { يبخلون } على هذا البخل المقدر كما دل السفيه على السفه في قول الشاعر : [ الوافر ]
إذا نُهِيَ السَّفيهُ جَرى إليهِ . . . وَخَالَفَ ، وَالسَّفيهُ إلى خلافِ{[3745]}
فالمعنى جرى إلى السفه{[3746]} ، وأما من قرأ «تحسبن » بالتاء من فوق ففي الكلام حذف مضاف هو المفعول الأول ، تقديره ولا تحسبن يا محمد بخل الذين يبخلون خيراً لهم ، قال الزّجاج ، وهي مثل { واسأل القرية }{[3747]} وقوله تعالى : { ولله ميراث السماوات } خطاب على ما يفعله البشر دال على فناء الجميع وأنه لا يبقى مالك إلا الله تعالى وإن كان ملكه تعالى على كل شيء لم يزل ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «والله بما يعملون » بالياء من أسفل على ذكر الذين يبخلون ويطوقون ، وقرأ الباقون بالتاء من فوق ، وذلك على الرجوع من الغيبة إلى المخاطبة لأنه قد تقدم
عطف على { ولا يحسبن الذين كفروا } ، لأنّ الظاهر أنّ هذا أنزل في شأن أحوال المنافقين ، فإنّهم كانوا يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ، كما حكى الله عنهم في سورة النساء ( 37 ) بقوله : { الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل } وكانوا يقولون : لا تنفقوا على من عند رسول الله حتّى ينفضُّوا ، وغير ذلك ، ولا يجوز بحال أن يكون نازلاً في شأن بعض المسلمين لأنّ المسلمين يومئذ مبرّؤون من هذا الفعل ومن هذا الحسبان ، ولذلك قال معظم المفسّرين : إنّ الآية نزلت في منع الزكاة ، أي فيمن منعوا الزكاة ، وهل يمنعها يومئذ إلاّ منافق . ولعلّ مناسبة ذكر نزول هذه الآية هنا أنّ بعضهم منع النفقة في سبيل الله في غزوة أُحُد . ومعنى حسبانه خيراً أنّهم حسبوا أن قد استبقوا مالهم وتنصّلوا عن دفعه بمعاذير قُبلت منهم .
أمّا شمولها لِمنع الزكاة ، فإن لم يكن بعموم صلة الموصول إن كان الموصول للعهد لا للجنس ، فبدلالة فحوى الخطاب .
وقرأ الجمهور : ولا يحسبنّ الذين يبخلون } بياء الغيبة ، وقرأه حمزة بتاء الخطاب كما تقدّم في نظيره . وقرأ الجمهور : تحسِبنّ بكسر السين ، وقرأه ابن عامر ، وحمزة ، وعاصم بفتح السين .
وقوله : { هو خيراً لهم } قال الزمخشري ( هو ) ضمير فصْل ، وقد يبنى كلامه على أنّ ضمير الفصل لا يختصّ بالوقوع مع الأفعال التي تطلب اسماً وخبراً ، ونقل الطيبي عن الزجاج أنّه قال : زعم سيبويه أنّه إنّما يكون فصلاً مع المبتدأ والخبر ، يعني فلا يصحّ أن يكون هُنا ضمير فصل ولذلك حكى أبو البقاء فيه وجهين : أحدهما أن يكون ( هو ) ضميراً واقعاً موقع المفعول الأوّل على أنه من إنابة ضمير الرفع عن ضمير النصب ، ولعلّ الذي حسنّه أنّ المعاد غير مذكور فلا يهتدي إليه بضمير النصب ، بخلاف ضمير الرفع لأنّه كالعمدة في الكلام ، وعلى كلّ تقدير فالضمير عائد على البخل المستفاد من { يبخلون } ، مثل { اعدلوا هو أقرب للتقوى } [ المائدة : 8 ] ، ومثل قوله :
إذَا نُهِي السفيهُ جَرى إليه *** وخَالف والسفيهُ إلى خلاف
ثم إذا كان ضمير فصل فأحد مفعولي حسب محذوف اختصاراً لدلالة ضمير الفصل عليه ، فعلى قراءة الفوقية فالمحذوف مضاف حَلّ المضافُ إليه محلّه ، أي لا تحسبنّ الذين يبخلون خيراً وعلى قراءة التحتيّة : ولا يحسبنّ الذين يبخلون بُخلهم خيراً .
والبُخْل بضم الباء وسكون الخاء ويقال : بَخَل بفتحهما ، وفعلُه في لغة أهل الحجاز مضموم العين في الماضي والمضارع . وبقية العرب تجعله بكسر العين في الماضي وفتحها في المضارع ، وبلغة غير أهل الحجاز جاء القرآن لِخفّة الكسرة والفتحة ولذا لم يقرأ إلاّ بها . وهو ضدّ الجود ، فهو الانقباض عن إعطاء المال بدون عوض ، هذا حقيقته ، ولا يطلق على منع صاحب شيء غير مال أن ينتفع غيره بشيئه بدون مضرّة عليه إلاَّ مجازاً ، وقد ورد في أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم : « البخيل الذي أُذكرُ عنده فلا يصلّي عليّ » ويقولون : بخِلت العين بالدموع ، ويرادف البخلَ الشحّ ، كما يرادف الجودَ السخاء والسماح .
وقوله : { بل هو شر لهم } تأكيد لنفي كونه خيراً ، كقول امرىء القيس : > وهذا كثير في كلام العرب ، على أنّ في هذا المقام إفادة نفي توهّم الواسطة بين الخير والشرّ .
وجملة { سيطوّقون } واقعة موقع العلّة لقوله : { بل هو شر لهم } .
ويطوّقون يحتمل أنه مشتقّ من الطاقة ، وهي تحمُّل ما فوق القدرة أي سيحملون ما بخلوا به ، أي يكون عليهم وزراً يوم القيامة ، والأظهر أنّه مشتقّ من الطَّوْق ، وهو ما يلبس تحت الرقبة فوق الصدر ، أي تجعل أموالهم أطواقاً يوم القيامة فيعذّبون بحملها ، وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم « من اغتصب شبراً من أرض طُوّقه من سبع أرضين يوم القيامة » والعرب يقولون في أمثالهم تقلّدها ( أي الفعلة الذميمة ) طوقَ الحمامة . وعلى كلا الاحتمالين فالمعنى أنّهم يشهَّرون بهذه المذمّة بين أهل المحشر ، ويلزمون عقاب ذلك . وقوله : { ولله ميراث السموات والأرض } تذييل لموعظة البَاخلين وغيرهم : بأنّ المال مال الله ، وما من بخيل إلاّ سيذهب ويترك ماله ، والمتصرّف في ذلك كلّه هو الله ، فهو يرث السماوات والأرض ، أي يستمرّ ملكه عليهما بعد زوال البشر كلّهم المنتفعين ببعض ذلك ، وهو يملك ما في ضمنهما تبعاً لهما ، وهو عليم بما يعمل الناس من بخل وصدقة ، فالآية موعظة ووعيد ووعد لأنّ المقصود لازم قوله : { خبير } .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.