المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{لَوۡ كَانَ عَرَضٗا قَرِيبٗا وَسَفَرٗا قَاصِدٗا لَّٱتَّبَعُوكَ وَلَٰكِنۢ بَعُدَتۡ عَلَيۡهِمُ ٱلشُّقَّةُۚ وَسَيَحۡلِفُونَ بِٱللَّهِ لَوِ ٱسۡتَطَعۡنَا لَخَرَجۡنَا مَعَكُمۡ يُهۡلِكُونَ أَنفُسَهُمۡ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ إِنَّهُمۡ لَكَٰذِبُونَ} (42)

وقوله : { لو كان عرضاً قريباً } الآية ، ظاهر هذه الآية وما يحفظ من قصة تبوك أن الله لما أمر رسوله بغزو الروم نذب الناس وكان ذلك في شدة من الحر وطيب من الثمار والظلال ، فنفر المؤمنون ، واعتذر منهم لا محالة فريق لا سيما من القبائل المجاورة للمدينة ، ويدل على ذلك قوله في أول هذه الآية

{ يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض } [ التوبة : 38 ] ، لأن هذا الخطاب ليس للمنافقين خاصة بل هو عام ، واعتذر المنافقون بأعذار كاذبة ، وكانوا بسبيل كسل مفرط وقصد للتخلف وكانت أعذار المؤمنين خفيفة ولكنهم تركوا الأولى من التحامل ، فنزل ما سلف من الآيات في عتاب المؤمنين ، ثم ابتدأ من هذه الآية ذكر المنافقين وكشف ضمائرهم ، فيقول لو كان هذا الغزو لعرض أي لمال وغنيمة تنال قريباً بسفر قاصد يسير لبادروا إليه ، لا لوجه الله ولا لظهور كلمته ، ولكن بعدت عليهم الشقة في غزو الروم أي المسافة الطويلة ، وذكر أبو عبيدة أن أعرابياً قدم البصرة وكان قد حمل حمالة فعجز عنها ، وكان معه ابن له يسمى الأحوص ، فبادر الأحوص أباه بالقول ، فقال : إنا من تعلمون ، وابنا سبيل ، وجئنا من شقة ، ونطلب في حق ، وتنطوننا{[5665]} ويجزيكم الله فتهيأ أبوه ليخطب فقال له :«يا ، إياك ، إني قد كفيتك » .

قال القاضي أبو محمد : يا تنبيه وإياك نهي ، وقرأ عيسى ابن عمر «الشِّقة » بكسر الشين ، وقرأ الأعرج «بعِدت » بكسر العين ، وحكى أبو حاتم أنها لغة بني تميم في اللفظتين ، وقوله { سيحلفون بالله } يريد المنافقين ، وهذا إخبار بغيب ، وقوله { يهلكون أنفسهم } يريد عند تخلفهم مجاهرة وكفرهم ، فكأنهم يوجبون على أنفسهم الحتم بعذاب الله .

ثم أخبر أن الله الذي هو أعدل الشاهدين يعلم كذبهم وأنهم كانوا يستطيعون الخروج ولكنهم تركوه كفراً ونفاقاً ، وهذا كله في الجملة لا بتعيين شخص ولو عين لقتل بالشرع ، وقرأ الأعمش على جهة التشبيه بواو ضمير الجماعة «لوُ استطعنا » بضم الواو ، ذكره ابن جني ، ومثله بقوله{[5666]} تعالى : { لقد ابتغوا الفتنة }{[5667]} { فتمنوا الموت }{[5668]} و { اشتروا الضلالة }{[5669]} .


[5665]:- لغة في "تعطوننا"، وهي لغة أهل اليمن، وفي الحديث: (اليد المنطية خير من اليد السفلى)، وفي حديث الدعاء (لا مانع لما أنطيت، ولا منطي لما منعت). وقد جاءت في بعض النسخ على اللغة المشهورة: "تعطوننا".
[5666]:- هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: "ومثله قوله" ولكن أخطأ النساخ، ولعله أراد: (مثّله) بفتح الميم وشد الثاء المفتوحة، يعني ابن جني.
[5667]:- من الآية (48) من سورة (التوبة).
[5668]:- من الآية (6) من سورة (الجمعة).
[5669]:- من قوله في الآية (16) من سورة (البقرة): {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى}، وتكررت في الآية (175) من نفس السورة.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{لَوۡ كَانَ عَرَضٗا قَرِيبٗا وَسَفَرٗا قَاصِدٗا لَّٱتَّبَعُوكَ وَلَٰكِنۢ بَعُدَتۡ عَلَيۡهِمُ ٱلشُّقَّةُۚ وَسَيَحۡلِفُونَ بِٱللَّهِ لَوِ ٱسۡتَطَعۡنَا لَخَرَجۡنَا مَعَكُمۡ يُهۡلِكُونَ أَنفُسَهُمۡ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ إِنَّهُمۡ لَكَٰذِبُونَ} (42)

استئناف لابتداء الكلام على حال المنافقين وغزوة تبوك حين تخلّفوا واستأذن كثير منهم في التخلّف واعتلُّوا بعلل كاذبة ، وهو ناشئ عن قوله : { ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض } [ التوبة : 38 ] .

وانتُقل من الخطاب إلى الغيبة لأنّ المتحدّث عنهم هنا بعض المتثاقلين لا محالة بدليل قوله بعد هذا { إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم } [ التوبة : 45 ] . ومن هذه الآيات ابتدأ إشعار المنافقين بأنّ الله أطْلَع رسوله صلى الله عليه وسلم على دخائلهم .

والعَرَض ما يعرض للناس من متاع الدنيا وتقدّم في قوله تعالى : { يأخذون عرض هذا الأدنى } في سورة الأعراف ( 169 ) وقوله : { تريدون عرض الدنيا } في سورة الأنفال ( 67 ) والمراد به الغنيمة .

والقريب : الكائن على مسافة قصيرة ، وهو هنا مجاز في السهْل حصولُه . { وقاصدا } أي وَسطاً في المسافة غير بعيد . واسم كان محذوف دلّ عليه الخبر : أي لو كان العرض عرضاً قريباً ، والسفر سفراً متوسّطاً ، أو : لو كان ما تدعوهم إليه عَرضاً قريباً وسفراً .

والشُّقة بضمّ الشين المسافة الطويلة .

وتعدية { بعدت } بحرف ( على ) لتضمّنه معنى ثقلت ، ولذلك حسن الجمع بين فعل { بعدت } وفاعله { الشقة } مع تقارب معنييهما ، فكأنّه قيل : ولكن بعد منهم المكان لأنّه شُقّة ، فثقل عليهم السفر ، فجاء الكلام موجزاً .

وقوله : { وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم } يؤذن بأنّ الآية نزلت قبل الرجوع من غزوة تبوك ، فإنّ حلفهم إنّما كان بعد الرجوع وذلك حين استشعروا أنّ الرسول عليه الصلاة والسلام ظانٌ كذبَهم في أعذارهم .

والاستطاعة القدرة : أي لسنا مستطيعين الخروج ، وهذا اعتذار منهم وتأكيد لاعتذارهم .

وجملة { لخرجنا معكم } جواب { لو } .

والخروج الانتقال من المقرّ إلى مكان آخر قريب أو بعيد ويعدّى إلى المكان المقصود ب ( إلى ) ، وإلى المكان المتروك ب ( مِن ) ، وشاع إطلاق الخروج على السفر للغزو . وتقييده بالمعية إشعار بأنّ أمر الغزو لا يهمّهم ابتداءً ، وأنّهم إنّما يخرجون لو خرجوا إجابة لاستنفار النبي صلى الله عليه وسلم خروج الناصر لغيره ، تقول العرب : خرج بنو فلان وخرج معهم بنو فلان ، إذا كانوا قاصدين نصرهم .

وجملة { يهلكون أنفسهم } حال ، أي يحلفون مُهلكين أنفسهم ، أي موقعينَها في الهُلْك . والهُلْك : الفناء والموتُ ، ويطلق على الأضرار الجسيمة وهو المُناسب هنا ، أي يتسبّبون في ضرّ أنفسهم بالأيمان الكاذبة ، وهو ضرّ الدنيا وعذاب الآخرة .

وفي هذه الآية دلالة على أنّ تعمد اليمين الفاجرة يفضي إلى الهلاك ، ويؤيّده ما رواه البخاري في كتاب الديات من خبر الهذليين الذين حلفوا أيمان القسامة في زمن عُمر ، وتعمّدوا الكذب ، فأصابهم مطر فدخلوا غاراً في جبل فانهجم عَليهم الغار فماتوا جميعاً .

وجملة { والله يعلم إنهم لكاذبون } حال ، أي هم يفعلون ذلك في حال عدم جدواه عليهم ، لأنّ الله يعلم كذبهم ، أي ويُطلِع رسوله على كذبهم ، فما جنوا من الحلف إلاّ هلاك أنفسهم .

وجملة { إنهم لكاذبون } سدّت مسدّ مفعولي { يعلم } .