نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{لَوۡ كَانَ عَرَضٗا قَرِيبٗا وَسَفَرٗا قَاصِدٗا لَّٱتَّبَعُوكَ وَلَٰكِنۢ بَعُدَتۡ عَلَيۡهِمُ ٱلشُّقَّةُۚ وَسَيَحۡلِفُونَ بِٱللَّهِ لَوِ ٱسۡتَطَعۡنَا لَخَرَجۡنَا مَعَكُمۡ يُهۡلِكُونَ أَنفُسَهُمۡ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ إِنَّهُمۡ لَكَٰذِبُونَ} (42)

ولما كان هذا العتاب مؤذناً بأن{[36367]} فيهم من تباطأ عن الجهاد اشتغالاً بنحو الأموال والأولاد ، وكان ما اشتملت عليه هذه الآيات من الأوامر والزواجر والمواعظ جديرا : بأن يخفف كل متثاقل وينشط كل متكاسل ، تشوفت النفوس إلى ما اتفق بعد ذلك فأعلم سبحانه به في أساليب البلاغة المخبرة عن أحوال القاعدين وأقاصيص الجامدين المفهمة أن هناك من غلب عليه الشقاء فلم ينتفع بالمواعظ ، فالتفت من لطف الإقبال إلى تبكيت المتثاقلين بأسلوب الإعراض المؤذن بالغضب المحقق للسخط المبين لفضائحهم المبعثر لقبائحهم{[36368]} المخرج لهم مما دخلوا فيه من عموم الدعاء باسم الإيمان فقال : { لو كان } أي ما تدعوا إليه { عرضاً } أي متاعاً دنيوياً { قريباً } أي سهل التناول { وسفراً قاصداً } أي وسطاً عدلاً مقارباً { لا تبعوك } أي لأجل رجاء العرض مع سهولة السفر لأن هممهم قاصرة و{[36369]} منوطة بالحاضر { ولكن } أي لم يتبعوك تثاقلاً إلى الأرض ورضى بالفاني الحاضر من الباقي الغائب لأنها { بعدت عليهم الشقة } أي المسافة التي تطوى بذرع الأرجل بالمسير فيحصل بها النكال والمشقة فلم يواز ما يحصل لهم بها من التعب ما يرجونه من العرض{[36370]} ، فاستأذنوك ، وفي هذا إشارة إلى ذمهم بسفول الهمم ودناءة الشيم بالعجز والكسل والنهم والثقل ، وإلى أن هذا الدين متين لا يحمله إلا ماضي الهم صادق العزم كما قال الشاعر{[36371]} :إذا همَّ ألقى بين عينيه عزمه *** وأعرض عن ذكر العواقب جانبا{[36372]}

فلله در أولي العزائم والصبر على الشدائد والمغارم ! ولما ذمهم بالشح بالدنيا ، أتبعه وصمهم بالسماح بالدين فقال مخبراً عما سيكون منهم علماً من أعلام النبوة : { وسيحلفون } أي المتخلفون بإخبار محقق لا خلف فيه { بالله } أي الذي لا أعظم منه عند رجوعكم إليهم جمعاً إلى ما انتهكوا من حرمتك بالتخلف عنك لانتهاك حرمة الله بالكذب قائلين : والله { لو استطعنا } أي الخروج إلى ما دعوتمونا إليه { لخرجنا معكم } يحلفون حال كونهم { يهلكون أنفسهم } أي بهذا الحلف الذي يريدون به حياتها لأنهم كذبوا فيه فانتهكوا حرمة اسم الله { والله } أي والحال أن الملك الأعظم المحيط علماً وقدرة{[36373]} سبحانه { يعلم إنهم لكاذبون* } فقد جمعوا بين إهلاك أنفسهم والفضيحة عند الله بعلمه بكذبهم في أنهم غير مستطيعين ، وجزاء الكاذب في مثل ذلك الغضب المؤبد الموجب للعذاب الدائم المخلد .


[36367]:سقط من ظ.
[36368]:سقط ما بين الرقمين من ظ.
[36369]:زيد من ظ.
[36370]:في ظ: العوض.
[36371]:زيد من ظ.
[36372]:والبيت لسعد بن ناشب ـ راجع باب الحماسة من كتابها.
[36373]:من ظ، وفي الأصل: قدرا.