الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{لَوۡ كَانَ عَرَضٗا قَرِيبٗا وَسَفَرٗا قَاصِدٗا لَّٱتَّبَعُوكَ وَلَٰكِنۢ بَعُدَتۡ عَلَيۡهِمُ ٱلشُّقَّةُۚ وَسَيَحۡلِفُونَ بِٱللَّهِ لَوِ ٱسۡتَطَعۡنَا لَخَرَجۡنَا مَعَكُمۡ يُهۡلِكُونَ أَنفُسَهُمۡ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ إِنَّهُمۡ لَكَٰذِبُونَ} (42)

لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك أظهر الله نفاق قوم . والعرض : ما يعرض من منافع الدنيا . والمعنى : غنيمة قريبة . أخبر عنهم أنهم لو دعوا إلى غنيمة لاتبعوه . " عرضا " خبر كان . " قريبا " نعته . " وسفرا قاصدا " عطف عليه . وحذف اسم كان لدلالة الكلام عليه . التقدير : لو كان المدعو إليه عرضا قريبا وسفرا قاصدا - أي سهلا معلوم الطرق - لاتبعوك . وهذه الكناية للمنافقين كما ذكرنا ؛ لأنهم داخلون في جملة من خوطب بالنفير . وهذا موجود في كلام العرب يذكرون الجملة ثم يأتون بالإضمار عائدا على بعضها ، كما قيل في قوله تعالى : " وإن منكم إلا واردها{[8026]} " [ مريم : 71 ] أنها القيامة . ثم قال جل وعز : " ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا " [ مريم :72 ] يعني جل وعز جهنم . ونظير هذه الآية من السنة في المعنى قوله عليه السلام : ( لو يعلم أحدهم أنه يجد عظما سمينا أو مرماتين{[8027]} حسنتين لشهد العشاء ) . يقول : لو علم أحدهم أنه يجد شيئا حاضرا معجلا يأخذه لأتى المسجد من أجله . " ولكن بعدت عليهم الشقة " حكى أبو عبيدة وغيره أن الشقة السفر إلى أرض بعيدة . يقال : منه شقة شاقة . والمراد بذلك كله غزوة تبوك . وحكى الكسائي أنه يقال : شُقة وشِقة . قال الجوهري : الشقة بالضم من الثياب ، والشقة أيضا السفر البعيد وربما قالوه بالكسر . والشقة شظية تشظى من لوح أو خشبة . يقال للغضبان : احتد فطارت منه شقة ، بالكسر . " وسيحلفون بالله لو استطعنا " أي لو كان لنا سعة في الظهر والمال . " لخرجنا معكم " نظيره " ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا " [ آل عمران : 97 ] فسرها النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ( زاد وراحلة ) وقد تقدم{[8028]} . " يهلكون أنفسهم " أي بالكذب والنفاق . " والله يعلم إنهم لكاذبون " في الاعتلال .


[8026]:راجع ج 11 ص 131 فما بعد.
[8027]:مرماتين (بكسر الميم) وقد تفتح. تثنية مرماة وهي ظلف الشاة ، أو ما بين ظلفها من اللحم.
[8028]:راجع ج 4 ص 153