المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنۡ أَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ رَجُلٖ مِّنۡهُمۡ أَنۡ أَنذِرِ ٱلنَّاسَ وَبَشِّرِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَنَّ لَهُمۡ قَدَمَ صِدۡقٍ عِندَ رَبِّهِمۡۗ قَالَ ٱلۡكَٰفِرُونَ إِنَّ هَٰذَا لَسَٰحِرٞ مُّبِينٌ} (2)

وقوله : { أكان للناس عجباً } الآية ، قال ابن عباس وابن جريج وغيرهما : نسبت هذه الآية أن قريشاً استبعدوا أن يبعث الله رسولاً من البشر ، وقال الزجاج : إنما عجبوا من إخباره أنهم يبعثون من القبور إذ النذارة والبشارة تتضمنان ذلك ، وكثر كلامهم في ذلك حتى قال بعضهم : أما وجد الله من يبعث إلا يتيم أبي طالب ، ونحو هذا من الأقاويل التي اختصرتها لشهرتها فنزلت الآية ، وقوله : { أكان } تقرير{[6000]} والمراد ب «الناس » قائلوا هذه المقالة ، و { عجباً } خبر كان واسمها { أن أوحينا } ، وفي مصحف ابن مسعود «أكان للناس عجب » وجعل الخبر في قوله { أن أوحينا } والأول أصوب لأن الاسم معرفة والخبر نكرة وهذا القلب لا يصح ولا يجيء إلا شاذاً{[6001]} ومنه قول حسان : [ الوافر ]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** يكون مزاجها عسلٌ وماء{[6002]}

ولفظة العجب هنا ليست بمعنى التعجب فقط بل معناه أَوَصَل إنكارهم وتعجبهم إلى التكذيب ؟ وقرأت فرقة «إلى رجل » بسكون الجيم ، ثم فسر الوحي وقسمه عل النذارة للكافرين والبشارة للمؤمنين ، و «القدم » هنا : ما قدم ، واختلف في المراد بها ها هنا فقال ابن عباس ومجاهد والضحاك والربيع بن أنس وابن زيد : هي الأعمال الصالحة من العبادات ، وقال الحسن بن أبي الحسن وقتادة : هي شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم ، وقال زيد بن أسلم وغيره : هي المصيبة بمحمد صلى الله عليه وسلم في موته ، وقال ابن عباس أيضاً وغيره : هي السعادة السابقة لهم في اللوح المحفوظ ، وهذا أليق الأقوال بالآية ، ومن هذه اللفظة قول حسان : [ الطويل ]

لنا القدم العليا إليك وخلْفَنا *** لأوّلنا في طاعةِ اللهِ تابعُ{[6003]}

وقول ذي الرمة : [ الطويل ]

لكم قدم لا ينكر الناس أنها*** مع الحسب العادي طمت على البحر{[6004]}

ومن هذه اللفظة قول النبي صلى الله عليه وسلم في صفة جهنم : «حتى يضع الجبار فيها قدمه فتقول قط قط »{[6005]} ، أي ما قدم لها من خلقه ، هذا على أن الجبار اسم الله تعالى ، ومن جعله اسم جنس كأنه أراد الجبارين من بني آدم ، ف «القدم » على التأويل الجارحة{[6006]} والصدق في هذه الآية بمعنى الصلاح ، كما تقول رجل صدق ورجل سوء{[6007]} ، وقوله { قال الكافرون } يحتمل أن يكون تفسيراً لقوله أكان وحينا إلى بشر عجباً قال الكافرون عنه كذا وكذا ، وذهب الطبري إلى أن في الكلام حذفاً يدل الظاهر عليه تقديره فلما أنذر وبشر قال الكافرون كذا وكذا ، وقرأ جمهور الناس وهي قراءة نافع وأبي عمرو وابن عامر «إن هذا لسحر مبين » ، وقرأ مسروق بن الأجدع وابن جبير والباقون من السبعة وابن مسعود وأبو رزين ومجاهد وابن وثاب وطلحة والأعمش وعيسى بن عمر بخلاف ، وابن محيصن وابن كثير بخلاف عنه «إنه لساحر » والمعنى متقارب ، وفي مصحف أبي «قال الكافرون ما هذا إلا سحر مبين » ، وقولهم في الإنذار والبشارة سحر إنما هو بسبب أنه فرق بذلك كلمتهم وحال بين القريب وقريبه فأشبه ذلك ما يفعله الساحر فظنوه من ذلك الباب .


[6000]:- قال القرطبي: "استفهام معناه التقرير والتوبيخ"، وقال الشوكاني: "لإنكار العجب مع ما يفيده من التقريع والتوبيخ". وجعله الألوسي وأبو حيان للإنكار فقط.
[6001]:- قال أبو حيان: "وهذا تخريج الزمخشري وابن عطية، وقيل: [كان] تامة، و[عجب] فاعل بها، والمعنى: أحدث للناس عجب لأن أوحينا؟ وهذا التوجيه حسن". فالشذوذ ناتج عنده عن فهم الزمخشري وابن عطية وليس في القراءة نفسها.
[6002]:-وهذا عجز بيت لحسان، وهو بتمامه: كأن سبيئة من بيت رأس يكون مزاجها عسل وماء والسبيئة: الخمر، وقد سبق الاستشهاد بهذا البيت عند تفسير قوله تعالى: {وما كان صلاتهم عند البيت} الآية (35) من سورة (الأنفال).
[6003]:- ورواه في (اللسان): "القدم الأولى"، والقدم: السابقة وما تقدموا فيه غيرهم من الخير، والخلف: الباقي بعد الهالك والتابع له، سمي به المتخلف والخالف لا على جهد البدل، وجمعه: خلوف مثل قرن وقرون، والخلف هنا محمود، أما في قوله تعالى: {فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة} فهو مذموم. والبيت من قصيدة له يذكر فيها الأيام الأولى من تاريخ المسلمين في المدينة، وهي أحد عشر بيتا.
[6004]:- أنشد هذا البيت الزمخشري في "أساس البلاغة" (قدم) قال: "ولفلان قدم في هذا الأمر: سابقة وتقدم، وله قدم صدق، قالوا ذو الرمة: "لكم قدم..." وهو في الديوان وتفسير الطبري: "مع الحسب العادي"، وفي الديوان: "على الفخر"، ومعنى العادي: القديم. ومعنى البيت: لكم سوابق تقدمت من الخير والفضل والحسب ما يعدّه الإنسان من مفاخره.
[6005]:-رواه البخاري في تفسير سورة (ق)، وفي الإيمان، وفي التوحيد، وكذلك رواه مسلم، والترمذي، والإمام أحمد في مواطن كثيرة في مسنده، ولفظه كما في البخاري عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يلقى في النار وتقول: هل من مزيد حتى يضع قدمه فيها فتقول: قط قط)، وروى مثله عن أبي هريرة في لفظ طويل، ومثله عن أبي هريرة أيضا بلفظ موجز.
[6006]:- هذا الاحتمال غير وارد لأن بعض روايات الحديث في مسلم تقول: (حتى يضع رب العزة)، ولأن معنى الحديث يرفضه.
[6007]:- رجل صدق بفتح الصاد.جاء في الصحاح: "رجل صدق اللقاء وصدق النظر وقوم صُدُقٌ بالضم، مثل فرس ورد وأفراس ورد، وجون وجون". وفي المعجم الوسيط: الصدق: الكامل من كل شيء، يقال: "رمح صدق: مستو صلب، ورجل صدق اللقاء: ثبت فيه". ويقال كذلك بالكسر: رجل صدق. وأما السوء فبفتح السين: "يقال: رجل سوء وعمل سوء، ورجل السوء والرجل السوء" (المعجم الوسيط).