المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{قُلۡ هُوَ ٱلۡقَادِرُ عَلَىٰٓ أَن يَبۡعَثَ عَلَيۡكُمۡ عَذَابٗا مِّن فَوۡقِكُمۡ أَوۡ مِن تَحۡتِ أَرۡجُلِكُمۡ أَوۡ يَلۡبِسَكُمۡ شِيَعٗا وَيُذِيقَ بَعۡضَكُم بَأۡسَ بَعۡضٍۗ ٱنظُرۡ كَيۡفَ نُصَرِّفُ ٱلۡأٓيَٰتِ لَعَلَّهُمۡ يَفۡقَهُونَ} (65)

هذا إخبار يتضمن الوعيد ، والأظهر من نسق الآيات أن هذا الخطاب للكفار الذين تقدم ذكرهم وهو مذهب الطبري ، وقال أبيّ بن كعب وأبو العالية وجماعة معهما : هي للمؤمنين وهم المراد ، قال أبي بن كعب : هي أربع خلال وكلهن عذاب وكلهن واقع قبل يوم القيامة فمضت اثنتان بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس وعشرين سنة ، ثم لبسوا شيعاً وأذيق بعضهم بأس بعض ، واثنتان واقعتان لا محالة الخسف والرجم ، وقال الحسن بن أبي الحسن : بعضها للكفار وبعضها للمؤمنين بعث العذاب من فوق وتحت للكفار وسائرها للمؤمنين ، وهذا الاختلاف إنما هو بحسب ما يظهر من أن الآية تتناول معانيها المشركين والمؤمنين ، وروي من حديث جابر وخالد الخزاعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت { أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم } قال أعوذ بوجهك فلما نزلت { أو من تحت أرجلكم } قال : أعوذ بوجهك فلما نزلت { أو يلبسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض } قال هذه أهون أو هذه أيسر{[4952]} ، فاحتج بهذا من قال إنها نزلت في المؤمنين ، وقال الطبري : وغير ممتنع أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم تعوذ لأمته من هذه الأشياء التي توعد بها الكفار ، وهون الثالثة لأنها بالمعنى هي التي دعا بها فمنع حسب حديث الموطأ وغيره ، وقد قال ابن مسعود : إنها أسوأ الثلاث ، وهذا عندي على جهة الإغلاظ في الموعظة ، والحق أنها أيسرها كما قال عليه السلام ، و { من فوقكم ومن تحت أرجلكم } لفظ عام للمنطبقين على الإنسان وقال السدي عن أبي مالك { من فوقكم } الرجم { ومن تحت أرجلكم } الخسف وقاله سعيد بن جبير ومجاهد ، وقال ابن عباس رضي الله عنه : { من فوقكم } ولاة الجور { ومن تحت أرجلكم } سفلة السوء وخدمة السوء .

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وهذه كلها أمثلة لا أنها هي المقصود ، إذ هذه وغيرها من القحوط والغرق وغير ذلك داخل في عموم اللفظ و { يلبسكم } على قراءة الستة معناه يخلطكم شيعاً فرقاً بتشيع بعضها لبعض ، واللبس :الخلط ، وقال المفسرون هو افتراق الأهواء والقتال بين الأمة ، وقرأ أبو عبد الله المدني «يُلبسكم » بضم الياء من ألبس ، فهوعلى هذه استعارة من اللباس ، فالمعنى أو يلبسكم الفتنة شيعاً و { شيعاً } منصوب على الحال وقد قال الشاعر [ النابغة الجعدي ] : [ المتقارب ]

لبِسْت أُناساً فأفْنَيْتهم . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[4953]}

فهذه عبارة عن الخلطة والمقاساة ، والبأس القتل وما أشبهه من المكاره ، { ويذيق } استعارة إذ هي من أجل حواس الاختبار ، وهي استعارة مستعملة في كثير من كلام العرب وفي القرآن ، وقرأ الأعمش «ونذيق » بنون الجماعة ، وهي نون العظمة في جهة الله عز وجل ، وتقول أذقت فلاناً العلقم تريد كراهية شيء صنعته به ونحو هذا ، وفي قوله تعالى { انظر كيف نصرف } الآية ، استرجاع لهم وإن كان لفظها لفظ تعجيب للنبي صلى الله عليه وسلم فمضمنها أن هذه الآيات والدلائل إنما هي لاستصرافهم عن طريق غيهم ، و «الفقه » الفهم .


[4952]:- رواه البخاري عند تفسير هذه الآية: {قل هو القادر} الآية، ورواه أيضا في كتاب التوحيد عن قتيبة، ورواه الحميدي في مسنده عن سفيان بن عيينة، ورواه ابن حبان في صحيحه عن أبي يعلى الموصلي، ورواه النسائي في التفسير عن قتيبة، ورواه ابن جرير عن سفيان بن عيينة، ورواه أبو بكر بن مردويه عنه أيضا. (ابن كثير). ويتعلق بهذه الآية أحاديث كثيرة، فقد روى الإمام أحمد عن سعد بن أبي وقاص قال: (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية) {قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم} فقال: أما إنها كائنة ولم يأت تأويلها بعد). وأيضا روى الإمام أحمد، وابن ماجة في الفتن، وابن مردويه- عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: (أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل لي: خرج قبل، قال: فجعلت لا أمر بأحد إلا قال لي: مرّ قبل، حتى مررت فوجدته قائما يصلي، قال: فجئت حتى قمت خلفه، قال: فأطال الصلاة، فلما قضى صلاته قلت: يا رسول الله، قد صليت صلاة طويلة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني صليت صلاة رغبة ورهبة، إني سألت الله عز وجل ثلاثا، فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة: سألته ألا يهلك أمتي غرقا فأعطاني، وسألته ألا يظهر عليهم عدو ليس منهم فأعطانيها، وسألته ألا يجعل بأسهم بينهم فردّها عليّ).
[4953]:- هذا صدر بيت للنابغة الجعدي، والبيت بتمامه: لبست أناسا فأفنيتهم وأفنيت بعد أناس أناسا. وبعده ثلاثة أهلين أفنيتهم وكان الإله هو المستآسا قال في (اللسان): يقال: لبست امرأة أي: تمتعت بها زمنا، ولبست قوما، أي: تمليت بهم دهرا، وتلبّس حب فلانة بدمي ولحمي أي: اختلط، وأنشد أبو حنيفة: تلبّس حبّها بدمي ولحمي تلبّس عطفة بفروع ضال.