المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{قَالَ فَبِمَآ أَغۡوَيۡتَنِي لَأَقۡعُدَنَّ لَهُمۡ صِرَٰطَكَ ٱلۡمُسۡتَقِيمَ} (16)

وقوله : { فبما } يحتمل أن يريد به القسم كما تقول فبالله لأفعلن ، ويحتمل أن يريد به معنى المجازاة كما تقول فبإكرامك يا زيد لأكرمنك .

قال القاضي أبو محمد : وهذا أليق المعاني بالقصة ، ويحتمل أن يريد فمع إغوائك لي ومع ما أنا عليه من سوء الحال لأتجلدن ولأقعدن ، ولا يعرض لمعنى المجازاة ويحتمل أن يريد بقوله { فبما } الاستفهام عن السبب في إغوائه ، ثم قطع ذلك وابتدأ الإخبار عن قعوده لهم ، وبهذا فسر الطبري أثناء لفظه . و { أغويتني } قال الجمهور معناه أضللتني ، من الغي . وعلى هذا المعنى قال محمد بن كعب القرظي فيما حكى الطبري : قاتل الله القدرية َلإبليس أعلم بالله منهم ، يريد في أنه علم أن الله يهدي ويضل ، وقال الحسن { أغويتني } لعنتني . وقيل معناه خيبتني .

قال القاضي أبو محمد : وهذا كله تفسير بأشياء لزمت إغواءه ، وقالت فرقة { أغويتني } معناه أهلكتني ، حكى ذلك الطبري ، وقال : هو من قولك غوى الفصيل يغوي غوى إذا انقطع عنه اللبن فمات ، وأنشد : [ الطويل ]

معطَّفةُ الأثناءِ لَيْسَ فَصيلُها*** بِرَازِئها دراً ولا ميت غوى

قال : وقد حكي عن بعض طيىء : أصبح فلان غاوياً أي مريضاً . وقوله : { لأقعدن لهم صراطك } يريد : على صراطك ، وفي صراطك ، وحذف كما يفعل في الظروف ، ونحوه قول الشاعر : [ ساعدة بن جؤية ] .

لدن بهز الكف يعسل متنه*** فيه كما عسل الطريق الثعلب

وقال مجاهد : { صراطك المستقيم } يريد به الحق . وقال عون بن عبد الله : يريد طريق مكة .

قال القاضي أبو محمد : وهذا تخصيص ضعيف وإنما المعنى لأتعرضن لهم في طريق شرعك وعبادتك ومنهج النجاة فلأصدنهم عنه . ومنه قوله عليه السلام : «إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه ، نهاه عن الإسلام وقال تترك دين آبائك فعصاه فأسلم ، فنهاه عن الهجرة وقال تدع أهلك وبلدك فعصاه فهاجر ، فنهاه عن الجهاد وقال تقتل وتترك ولدك فعصاه فجاهد ، فله الجنة » الحديث .