جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري  
{قَالَ فَبِمَآ أَغۡوَيۡتَنِي لَأَقۡعُدَنَّ لَهُمۡ صِرَٰطَكَ ٱلۡمُسۡتَقِيمَ} (16)

القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأقْعُدَنّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ } .

يقول جلّ ثناؤه : قال إبليس لربه : فَبِما أغْوَيْتَنِي يقول : فبما أضللتني . كما :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : فَبِما أغْوَيْتَنِي يقول : أضللتني .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : فَبِما أغْوَيْتَنِي قال : فبما أضللتني .

وكان بعضهم يتأوّل قوله : فَبِما أغْوَيْتَنِي : بما أهلكتني ، من قولهم : غَوِيَ الفصيل يَغْوَى غَوًى ، وذلك إذا فقد اللبن فمات ، من قول الشاعر :

مُعَطّفَةُ الأثْناءِ ليسَ فَصِيلُها ***برازِئها دَرّا ولا مَيّتٍ غَوًى

وأصل الإغواء في كلام العرب : تزيين الرجل للرجل الشيء حتى يحسنه عنده غارّا له . وقد حُكي عن بعض قبائل طيّ أنها تقول : أصبح فلان غاويا : أي أصبح مريضا . وكان بعضهم يتأوّل ذلك أنه بمعنى القسم ، كأن معناه عنده : فبإغوائك إياي لأقعدنّ لهم صراطك المستقيم ، كما يقال : بالله لأفعلن كذا . وكان بعضهم يتأوّل ذلك بمعنى المجازاة ، كأن معناه عنده : فلأنك أغويتني ، أو فبأنك أغويتني لأقعدنّ لهم صراطك المستقيم . وفي هذا بيان واضح على فساد ما يقول القدرية من أن كلّ من كفر أو آمن فبتفويض الله أسباب ذلك إليه ، وأن السبب الذي به يصل المؤمن إلى الإيمان هو السبب الذي به يصل الكافر إلى الكفر وذلك أن ذلك لو كان كما قالوا لكان الخبيث قد قال بقوله : فَبِما أغْوَيْتَنِي : فبما أصلحتني ، إذ كان سبب الإغواء ، هو سبب الإصلاح ، وكان في إخباره عن الإغواء إخبار عن الإصلاح ، ولكن لما كان سبباهما مختلفين وكان السبب الذي به غوى وهلك من عند الله أضاف ذلك إليه فقال : فَبما أغْوَيْتَنِي . وكذلك قال محمد بن كعب القُرَظي ، فيما :

حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي ، قال : حدثنا زيد بن الحباب ، قال : حدثنا أبو مودود ، سمعت محمد بن كعب القرظي يقول : قاتل الله القدرية ، لإبليسُ أعلم بالله منهم .

وأما قوله : لأَقْعُدَنّ لَهُمْ صرَاطَكَ المُسْتَقِيمَ فإنه يقول : لأجلسنّ لبني آدم صراطك المستقيم ، يعني : طريقك القويم ، وذلك دين الله الحقّ ، وهو الإسلام وشرائعه .

وإنما معنى الكلام : لأصدنّ بني آدم عن عبادتك وطاعتك ، ولأغوينهم كما أغويتني ، ولأُضِلّنهم كما أضَللْتَني . وذلك كما رُوي عن سَبْرة بن الفاكه أنه سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول : «إن الشّيْطانَ قَعَد لاِبْنِ آدَمَ بأطْرَقَةٍ ، فَقَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الإسْلام ، فَقالَ : أتُسْلَمُ وَتَذَرُ دِينَكَ وَدينَ آبائِك ؟ فَعَصَاهُ فَأسْلَم . ثُمّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيق الهجْرَةِ ، فَقالَ : أتهاجِرُ وَتَذَرُ أرْضَكَ وَسَماءَكَ ، وإنمَا مَثَلُ المُهاجرِ كالفَرَسِ فِي الطّوَلِ ؟ فَعَصَاه وَهاجَرَ . ثُمّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الجِهادِ ، وَهُوَ جَهْدُ النّفْسِ والمَالِ ، فقالَ : أتُقاتلُ فتُقْتَلَ فَتُنْكَحُ المَرأةُ ويُقَسّمُ المَالُ ؟ قالَ : فَعَصَاهُ فَجاهَدَ » . ورُوي عن عون بن عبد الله في ذلك ، ما :

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا حيوة أبو يزيد ، عن عبد الله بن بكير ، عن محمد بن سوقة ، عن عون بن عبد الله : لأَقْعُدَنّ لهُمْ صرَاطَكَ المُسْتَقِيمَ قال : طريق مكة .

والذي قاله عون وإن كان من صراط الله المستقيم فليس هو الصراط كله ، وإنما أخبر عدوّ الله أنه يقعد لهم صراط الله المستقيم ولم يخصص منه شيئا دون شيء ، فالذي رُوي في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أشبه بظاهر التنزيل وأولى بالتأويل ، لأن الخبيث لا يألو عباد الله الصدّ عن كلّ ما كان لهم قربة إلى الله .

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل في معنى المستقيم في هذا الموضع . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : صِرَاطَكَ المُسْتَقِيمَ قال : الحقّ .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا أبو سعد المدنيّ ، قال : سمعت مجاهدا يقول : لأَقْعُدَنّ لَهُمْ صَرَاطَكَ المُسْتَقِيمَ قال : سبيل الحقّ ، فلأضلنهم إلا قليلاً .

واختلف أهل العربية في ذلك ، فقال بعض نحويي البصرة : معناه : لأقعدنّ لهم على صراطك المستقيم ، كما يقال : توجه مكة : أي إلى مكة ، وكما قال الشاعر :

كأني إذْ أسْعَى لاِءَظْفَرَ طائِرا ***مَعَ النّجْمِ مِنْ جَوّ السّماءِ يَصُوبُ

بمعنى : لأظفر بطائر ، فألقى الباء وكما قال : أعَجِلْتُم أَمْرَ رَبّكُمْ بمعنى : أعجلتم عن أمر ربكم . وقال بعض نحويي الكوفة : المعنى والله أعلم : لأقعدنّ لهم على طريقهم ، وفي طريقهم قال : وإلقاء الصفة من هذا جائز ، كما تقول : قعدت لك وجه الطريق ، وعلى وجه الطريق لأن الطريق صفة في المعنى يحتمل ما يحتمله اليوم والليلة والعام ، إذ قيل : آتيك غدا ، وآتيك في غد .

وهذا القول هو أولى القولين في ذلك عندي بالصواب ، لأن القعود مقتض مكانا يقعد فيه ، فكما يقال : قعدت في مكانك ، يقال : قعدت على صراطك ، وفي صراطك ، كما قال الشاعر :

لَدْنٍ بَهِزّ الكَفّ يَعْسِلُ مَتْنُهُ ***فِيهِ كمَا عَسَلَ الطّرِيقَ الثّعْلَبُ

فلا تكاد العرب تقول ذلك في أسماء البلدان ، ولا يكادون يقولون : جلست مكة وقمت بغداد .