المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{وَكَم مِّن قَرۡيَةٍ أَهۡلَكۡنَٰهَا فَجَآءَهَا بَأۡسُنَا بَيَٰتًا أَوۡ هُمۡ قَآئِلُونَ} (4)

{ كم } في موضع رفع بالابتداء والخبر { أهلكناها } ، ويصح أن يكون الخبر في قوله { فجاءها } و { أهلكناها } صفة ، ويصح أن تكون في موضع نصب بفعل مقدر بعدها تقديره وكم أهلكنا من قرية أهلكناها ، وقدر الفعل بعدها - وهي خبرية - تشبيهاً لها بالاستفهامية في أن لها في كل حال صدر الكلام . وقالت فرقة المراد وكم من أهل قرية ، وحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقام المضاف ، وقالت فرقة إنما عبر بالقرية لأنها أعظم في العقوبة إذا هلك البشر وقريتهم ، وقد بين في آخر الآية بقوله { أوهم } أن البشر داخلون في الهلاك ، فالآية على هذا التأويل تتضمن هلاك القرية وأهلها جميعاً ، وعلى التأويل الأول تتضمن هلاك الأهل ولا معنى لذكر القرية ، والمراد بالآية التكثير ، وقرأ ابن أبي عبلة : «وكم من قرية أهلكناهم فجاءهم بأسنا » . وقوله { فجاءها } يقتضي ظاهره أن المجيء بعد الإهلاك ، ، وذلك مستحيل فلم يبق إلا أن يعدل على ظاهر هذا التعقيب فقيل الفاء قد تجيء بمنزلة الواو ولا تعطى رتبة .

قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف وقيل عبر عن إرادة الإهلاك بالإهلاك ، قال مكي في المشكل : مثل قوله { فإذا قرأت القرآن فاستعذ } .

قال القاضي أبو محمد : وهذا يحتج به في تأويل من قال الفاء في هذه الآية لتعقيب القول ، وقيل المعنى «أهلكناها » بالخذلان وقلة التوفيق فجاءها بأسنا بعد ذلك ، وقال الفراء وحكاه الطبري أن الإهلاك هو مجيء البأس ، ومجيء البأس هو الإهلاك فلما تلازما لم يبال أيهما قدم في الرتبة ، وقيل إن الفاء لترتيب القول فقط فكأنه أخبر عن قرى كثيرة أنه أهلكها ثم قال فكان من أمرها مجيء البأس .

و { بياناً } نصب على المصدر في موضع الحال ، و { قائلون } من القائلة ، وإنما خص وقتي الدعة والسكون لأن مجيء العذاب فيهما أفظع وأهول لما فيه من البغت والفجأة ، و { أو } في هذا الموضع كما تقول : الناس في فلان صنفان حامد أو ذام ، فكأنه قال جاءهم بأسنا فرقتين بائتين أو قائلين ، وهذا هو الذي يسمى اللف ، وهو إجمال في اللفظ يفرقه ذهن المخاطب دون كلفة ، والبأس : العذاب ، وقيل : المراد : أو وهم قائلون ، فكره اجتماع حرفي العطف فحذفت الواو وهذا تكلف لأن معنى اللف باق .