{ وَكَم مّن قَرْيَةٍ أهلكناها } شروع في تذكيرهم وإنذارهم ما نزل بمن قبلهم من العذاب بسبب إعراضهم عن دين الله تعالى وإصرارهم على أباطيل أوليائهم ، و { كَمْ } خبرية للتكثير في محل رفع على الابتداء ؛ والجملة بعدها خبرها و { مِنْ } سيف خطيب و { قَرْيَةٌ } تمييز . ويجوز أن يكون محل { كَمْ } نصباً على الاشتغال ، وضمير { أهلكناها } راجع إلى معنى كم فإن المعنى قرى كثيرة أهلكناها ، والمراد بإهلاكها إرادة إهلاكها مجازاً كما في قوله تعالى : { إِذَا قمتم إلى الصلاة } [ المائدة : 6 ] الآية فلا إشكال في التعقيب الذي تفهمه الفاء في قوله سبحانه : { فَجَاءهَا بَأْسُنَا } أي عذابنا ، واعترض هذا الجواب بعض المدققين بأن فيه إشكالاً أصولياً ، وهو أن الإرادة إن كانت باعتبار تعلقها التنجيزي فمجىء البأس مقارن لها لا متعقب لها وبعدها ، وإن لم يرد ذلك فهي قديمة فإن كان البأس يعقبها لزم قدم العالم وإن تأخر عنها لزم العطف بثم . وأجيب بأن المراد التعلق التنجيزي قبل الوقوع أي قصدنا إهلاكها فتدبر ، وقيل : إن المراد بالإهلاك الخذلان وعدم التوفيق فهو استعارة أو من إطلاق المسبب على السبب ، وإلى هذا يشير كلام ابن عطية وتعقب بأنه اعتزالي وأن الصواب أن يقال : معناه خلقنا في أهلها الفسق والمخالفة فجاءها بأسنا ، وقيل : المراد حكمنا بإهلاكها فجاءها ، وقيل : الفاء تفسيرية نحو توضأ فغسل وجهه الخ . وقيل : إن الفاء للترتيب الذكري . وقال ابن عصفور : إن المراد أهلكناها هلاكاً من غير استئصال فجاءها هلاك الاستئصال ، وقال الفراء : الفاء بمعنى الواو أو المراد فظهر مجىء بأسنا واشتهر ، وقيل : الكلام على القلب وفيه تقديم وتأخير أي أهلكناها بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَائلُونَ فجاءها بأسنا فالإهلاك في الدنيا ومجىء البأس في الآخرة فيشمل الكلام عذاب الدارين ، ويأباه ما بعد إباء ظاهراً فإنه يدل على أن العذاب في الدنيا ، وقدر غير واحد في النظم الكريم مضافاً أي فجاء أهلها .
وجوز بعضهم الحمل على الاستخدام لأن القرية تطلق على أهلها مجازاً ، ومن الناس من قدر في الأول المضاف أيضاً مع أن القرية تتصف بالهلاك وهو الخراب .
والبيات في الأصل مصدر بات يبيت بيتاً وبيتة وبياتاً وبيتوتة ، وذكر الراغب : «أن البيات وكذا التبييت قصد العدو ليلاً » . وقال الليث : البيتوتة الدخول في الليل ، ونصبه على الحال بتأويله ببائتين . وجوز أن يكون على الظرفية وهو خلاف الظاهر ، واحتمال النصب على المفعولية له كما زعم أبو البقاء مما لا يلتفت إليه . و ( أو ) للتنويع وما بعدها عطف على الحال وهو في موضع الحال أيضاً وأضمرت فيه الواو كما قال ابن الأنباري لوضوح المعنى ومن أجل أن ( أو ) حرف عطف والواو كذلك فاستثقلوا الجمع بين حرفين من حروف العطف فحذفوا الثاني ، ونقل ذلك عن الفراء أيضاً .
وتعقب بأن واو الحال مغايرة لواو العطف بكل حال وهي قسم من أقسام الواو كواو القسم بدليل أنها تقع حيث لا يمكن أن يكون ما قبلها حالاً وكونها للعطف يقتضي أن لا تقع إلا حيث يكون ما قبلها حالا حتى تعطف حالا على حال . وقال ابن المنير : «إن هذه الواو لا بد أن تمتاز عن واو العطف بمزية ألا تراها تصحب الجملة الاسمية بعد الفعلية [ في قولك : جاءني زيد وهو راكب ] ولو كانت عاطفة مجردة لاستقبح توسطها بين المتغايرين ( وإن لم يكن قبيحاً فالأفصح ) خلافه وحيث رأيناها تتوسط ( بينهما ) ( 1 ) والكلام ( حينئذ ) ( 1 ) هو الأفصح أو المتعين علمنا امتيازها ( بمعنى وخاصية ) عن واو العطف وإذا ثبت ذلك فلا غرو في اجتماعهما . وإن كان فيها معنى العطف مضافاً إلى تلك الخاصية فإما أن تسلبه حينئذ لغناء العاطفة عنها أو تستمر عليه ( وتجامع أو كما تجامع الواو لكن في الفصيح ) لما فيها من زيادة معنى الاستدراك ( في مثل قوله { ولكن لاَّ يَشْعُرُونَ } [ البقرة : 12 ] وعلى هذا فالاجتماع ممكن بلا كراهية ، فلو قلت : سَبِّحِ الله تعالى وأنت راكع أو وأنت ساجد لكان فصيحاً لا خبث فيه ولا كراهة » خلافاً لأبي حيان مدعياً أن النحويين نصوا على أن الجملة الحالية إذا دخل عليها حرف عطف امتنع دخول واو الحال عليها للمشابهة اللفظية فالمثال على هذا غير صحيح ، وظاهر كلام الزمخشري أن هذه الواو واو العطف في الأصل ثم استعيرت للحال لما فيها من الربط فقد خرجت عن العطف واستعملت لمعنى آخر لكنها أعطيت حكم أصلها في امتناع مجامعتها لعاطف آخر ، وعلى هذا ينبغي أن يحمل كلام ذينك الإمامين وهذا مذهب لهما ولمن اتبعهما .
وقال بعض النحاة : إن الضمير هنا مغن عن إضمار الواو والاكتفاء به غير شاذ كما قيل بل هو أكثر من رمل يبرين ومها فلسطين ، وقد نقل عن الزمخشري الرجوع إلى هذا القول والمسألة خلافية وفيها تفصيل . ففي «البديع » الاسمية الحالية لا تخلو من أن تكون من سبب ذي الحال أو أجنبية فإن كانت من سببه لزمها العائد والواو تقول : جاء زيد وأبوه منطلق وخرج عمرو ويده على رأسه إلا ما شذ من قولهم : كلمته فوه إلى في . وإن كانت أجنبية لزمتها الواو ونابت عن العائد . وقد يجمع بينهما نحو قدم عمرو وبشر قام إليه وقد جاءت بلا واو ولا ضمير كما في قوله :
ثم انتصينا جبال الصفد معرضة *** عن اليسار وعن إيماننا جدد
فإن جبال الصفد معرضة حال بلا واو ولا ضمير . وعن الشيخ عبد القاهر جعل ذلك على قسمين ما يلزمه الواو مطلقاً وهو ما إذا صدر بضمير ذي الحال نحو جاء زيد وهو يسرع لأن إعادة ضميره تقتضي أن الجملة مستأنفة لئلا تلغو الإعادة فإذا لم يقصد الاستئناف فلا بد من الواو وما عداه تلزمه الواو في الفصيح إلا على طريق التشبيه بالمفرد والتأويل فإنه حينئذ قد تترك الواو جوازاً ، وقيل ولم يسلم : إن الضابط في ذلك أنه إذا كان المبتدأ ضمير ذي الحال تجب الواو وإلا فإن كان الضمير فيما صدر به الجملة سواء كان مبتدأ نحو فوه إلى في و
{ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } [ البقرة : 36 ] أو خبراً نحو وجدته حاضراه الجود والكرم فلا يحكم بضعفه لكونه الرابط في أول الجملة وإلا فضعيف قليل .
وقال ابن مالك وتبعه ابن هشام ونقل عن السكاكي : إنه إذا كانت الجملة الاسمية مؤكدة لزم الضمير وترك الواو نحو هو الحق لا شبهة فيه و { ذلك الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ } [ البقرة : 2 ] ، واختار ابن المنير «أن المصحح لوقوع هذه الجملة هنا حالاً من غير واو هو العاطف إذ يقتضي مشاركة الجملة الثانية لما عطفت عليه في الحالية فيستغني عن واو الحال كما أنك تعطف على المقسم به فتدخله في حكم القسم من غير واو نحو ( موقعة ) ( 1 ) { واليل إِذَا يغشى * والنهار إِذَا تجلى } [ الليل : 1 ، 2 ] وقوله سبحانه : { فَلاَ أُقْسِمُ بالخنس * الجوار الكنس * واليل إِذَا عَسْعَسَ } [ التكوير : 15 17 ] ويستغنى عن تكرار حرف القسم بنيابة العاطف منابه » فليفهم . وأياً ما كان فحاصل المعنى أتاهم عذابنا تارة ليلاً كقوم لوط عليه السلام وتارة وقت القيلولة كقوم شعيب عليه السلام .
والقيلولة من قال يقيل فهو قائل ويقال قيلا وقائلة ( وميقالاً ) ومقيلاً ، وهي كما في «القاموس » نصف النهار ، أو هي ( الراحة والدعة ) نصف النهار وإن لم يكن معها نوم كما في «النهاية » ، واستدل له بقوله تعالى : { أصحاب الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً } إذ الجنة لا نوم فيها . وقال الليث : هي نومة نصف النهار ، ودفع الاستدلال بأن ذلك مجاز ، وإنما خص إنزال العذاب عليهم في هذين الوقتين لما أن نزول المكروه عند الغفلة والدعة أفظع وحكايته للسامعين أزجر وأردع عن الاغترار بأسباب الأمن والراحة ، وفي التعبير في الحال الأولى بالمصدر وجعلها عين البيات وفي الحال الثانية بالجملة الاسمية المفيدة في المشهور للثبوت مع تقديم المسند إليه المفيد للتقوى ما لا يخفى من المبالغة ، وكذا في وصف الكل بوصف البيات والقيلولة مع أن بعض المهلكين بمعزل منهما إيذان بكمال الأمن والغفلة ، وفي هذا ذم لهم بالغفلة عما هم بصدده ، وإنما خولف بين العبارتين على ما قيل وبنيت الحال الثانية على تقوى الحكم والدلالة على قوة أمرهم فيما أسند إليهم لأن القيلولة أظهر في إرادة الدعة وخفض العيش فإنها من دأب المترفين والمتنعمين دون من اعتاد الكدح والتعب . وفيه إشارة إلى أنهم أرباب أشر وبطر .
( هذا ومن باب الإشارة ) :{ وَكَم مّن قَرْيَةٍ } من قرى القلوب { أهلكناها } أفسدنا استعدادها { فَجَاءهَا بَأْسُنَا بياتا } أي بائتين على فراش الغفلة في ليل الشباب { أَوْ هُمْ قَائِلُونَ } [ الأعراف : 4 ] تحت ظلال الأمل في نهار المشيب
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.