قوله تعالى : { ولقد صدقكم الله وعده } . قال محمد بن كعب القرظي : لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة من أحد ، قد أصابهم ما أصابهم ، قال ناس من أصحابه : من أين أصابنا هذا وقد وعدنا الله النصر ؟ فأنزل الله تعالى ( ولقد صدقكم الله وعده ) . بالنصر والظفر ، وذلك أن الظفر كان للمسلمين في الابتداء .
قوله تعالى : { إذ تحسونهم بإذنه } . وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل أحداً خلف ظهره واستقبل المدينة وجعل عينين ، وهو جبل عن يساره ، وأقام عليه الرماة ، وأمر عليهم عبد الله بن جبير ، وقال لهم " احموا ظهورنا ، فإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا ، وإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا " . وأقبل المشركون ، فأخذوا في القتال فجعل الرماة يرشقون خيل المشركين بالنبل ، والمسلمون يضربونهم بالسيوف ، حتى ولوا هاربين فذلك قوله تعالى ( إذ تحسونهم بإذنه ) أي تقتلونهم قتلاً ذريعاً بقضاء الله . قال أبو عبيدة : الحس : الاستئصال بالقتل .
قوله تعالى : { حتى إذا فشلتم } . أي إن جبنتم ، وقيل : معناه فلما فشلتم .
قوله تعالى : { وتنازعتم في الأمر وعصيتم } . فالواو زائدة في وتنازعتم ، يعني إذا فشلتم تنازعتم ، وقيل : فيه تقديم وتأخير ، تقديره حتى إذا تنازعتم في الأمر وعصيتم فشلتم ، ومعنى التنازع الاختلاف ، وكان اختلافهم أن الرماة اختلفوا حين انهزم المشركون ، فقال بعضهم : انهزم القوم فما مقامنا ؟ وأقبلوا على الغنيمة ، وقال بعضهم : لا تجاوزوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وثبت عبد الله بن جبير في نفر يسير دون العشرة . فلما رأى خالد بن الوليد ، وعكرمة بن أبي جهل ذلك ، حملوا على الرماة فقتلوا عبد الله بن جبير وأصحابه ، وأقبلوا على المسلمين ، وحالت الريح فصارت دبوراً بعد ما كانت صباً ، وانقضت صفوف المسلمين ، واختلطوا فجعلوا يقتلون على غير شعار يضرب بعضهم بعضاً ما يشعرون من الدهش ، ونادى إبليس : أن محمداً قد قتل ، فكان ذلك سبب الهزيمة للمسلمين . قوله تعالى ( وعصيتم ) يعني الرسول صلى الله عليه وسلم وخالفتم أمره .
قوله تعالى : { من بعد ما أراكم } . الله .
قوله تعالى : { ما تحبون } . يا معشر المسلمين من الظفر والغنيمة .
قوله تعالى : { منكم من يريد الدنيا } . يعني الذين تركوا المركز وأقبلوا على النهب .
قوله تعالى : { ومنكم من يريد الآخرة } . يعني : الذين ثبتوا مع عبد الله بن جبير حتى قتلوا ، قال عبد الله بن مسعود : ما شعرت أن أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا حتى كان يوم أحد ، ونزلت هذه الآية .
قوله تعالى : { ثم صرفكم عنهم } . أي ردكم عنهم بالهزيمة .
قوله تعالى : { ليبتليكم } . ليمتحنكم ، وقيل : لينزل البلاء عليكم .
قوله تعالى : { ولقد عفا عنكم } . فلم يستأصلكم بعد المعصية والمخالفة منكم لأمر نبيكم .
{ ولقد صدقكم } عطف على قوله : { سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب } [ آل عمران : 151 ] وهذا عود إلى التَّسلية على ما أصابهم ، وإظهار لاستمرار عناية الله تعالى بالمؤمنين ، ورمز إلى الثقة بوعدهم بإلقاء الرعب في قلوب المشركين ، وتبيين لسبب هزيمة المسلمين : تطميناً لهم بذكر نظيره ومماثله السابقِ ، فإنّ لذلك موقعاً عظيماً في الكلام على حدّ قولهم ( التَّاريخ يعيد نفسه ) وليتوسّل بذلك إلى إلقاء تَبِعة الهزيمة عليهم ، وأنّ الله لم يُخلفهم وعده ، ولكن سوء صنيعهم أوقعهم في المصيبة كقوله : { وما أصابك من سيئة فمن نفسك } [ النساء : 79 ] .
وصِدق الوعد : تحقيقُه والوفاءُ به ، لأنّ معنى الصدق مطابقة الخبر للواقع ، وقد عدّي صدق هنا إلى مفعولين ، وحقّه أن لا يتعدّى إلا إلى مفعول واحد . قال الزمخشري في قوله تعالى في سورة [ الأحزاب : 23 ] : { من المؤمنين رجال صَدَقوا ما عاهدوا الله عليه } يقال : صدقني أخوك وكذَبني إذا قال لك الصدق والكذب ، وأمَّا المثَل ( صَدَقَنِي سِنّ بَكْرِه ) فمعناه صدقني في سنّ بَكره بطرح الجارّ وإيصال الفعل . فنصب { وعدَه } هنا على الحذف والإيصال ، وأصل الكلام صدقَكم في وعده ، أو على تضمين صَدَق معنى أعطى .
والوعد هنا وعد النصر الواقعُ بمثل قوله : { يأيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم } [ محمد : 7 ] أو بخبر خاصّ في يوم أحُد .
وإذْن الله بمعنى التقدير وتيسير الأسباب .
و ( إذ ) في قوله : { إذ تحسونهم } نصب على الظرفية لقوله : { صدقكم } أي : صدقكم الله الوعد حين كنتم تحسّونهم بإذنه فإنّ ذلك الحسّ تحقيق لوعد الله إيّاهم بالنَّصر ، و ( إذْ ) فيه للمضيّ ، وأتى بعدها بالمضارع لإفادة التجدّد أي لحكاية تجدّد الحسّ في الماضِي .
والحَسّ بفتح الحاء القَتل أطلقه أكثر اللغويين ، وقَيّده في « الكشاف » بالقتل الذريع ، وهو أصوب .
وقوله : { حتى إذا فشلتم } ( حتَّى ) حرف انتهاء وغاية ، يفيد أنّ مضمون الجملة الَّتي بعدها غاية لمضمون الجملة الَّتي قبلها ، فالمعنى : إذ تقتلونهم بتيسير الله ، واستمرّ قتلكم إيّاهم إلى حصول الفشل لكم والتنازع بينكم .
و ( حتَّى ) هنا جارّة و ( إذا ) مجرور بها .
و ( إذا ) اسم زمان ، وهو في الغالب للزمان المستقبل وقد يخرج عنه إلى الزمان مطلقاً كما هنا ، ولعلّ نكتة ذلك أنَّه أريد استحضار الحالة العجيبة تبعاً لقوله : { تحسونهم } .
و ( إذا ) هنا مجرّدة عن معنى الشرط لأنَّها إذا صارت للمضيّ انسلخت عن الصلاحية للشرطية ، إذ الشرط لا يكون ماضياً إلاّ بتأويل لذلك فهي غير محتاجة لجواب فلا فائدة في تكلّف تقديره : انقسمتم ، ولا إلى جعل الكلام بعدها دليلاً عليه وهو قوله : { منكم من يريد الدنيا } إلى آخرها .
والفشل : الوهن والإعياء ، والتنازع : التخالف ، والمُراد بالعصيان هنا عصيان أمر الرسول ، وقد رتّبت الأفعال الثلاثة في الآية على حسب ترتيبها في الحصول ، إذ كان الفشل ، وهو ضجر بعض الرماة من ملازمة موقفهم للطمع في الغنيمة ، قد حصل أولاً فنشأ عنه التنازع بينهم في ملازمة الموقف وفي اللحاق بالجيش للغنيمة ، ونشأ عن التنازع تصميم معظمهم على مفارقة الموقف الَّذي أمرهم الرسول عليه الصلاة والسّلام بملازمته وعدم الانصراف منه ، وهذا هو الأصل في ترتيب الأخبار في صناعة الإنشاء ما لم يقتض الحال العدول عنه .
والتعريف في قوله : { في الأمر } عوض عن المضاف إليه أي في أمركم أي شأنكم .
ومعنى { من بعد ما أراكم ما تحبون } أراد به النَّصر إذ كانت الريح أوّل يوم أُحُد للمسلمين ، فهزموا المشركين ، وولوا الأدبار ، حتَّى شوهدت نساؤهم مشمّرات عن سوقهنّ في أعلى الجبل هاربات من الأسر ، وفيهنّ هند بنت عتبة بن ربيعة امرأة أبي سفيان ، فلمَّا رأى الرماة الَّذين أمرهم الرسول أن يثبتوا لحماية ظهور المسلمين ، الغنيمة ، التحقوا بالغزاة ، فرأى خالد بن الوليد ، وهو قائد خيل المشركين يومئذ ، غرّة من المسلمين فأتاهم من ورائهم فانكشفوا واضطرب بعضهم في بعض وبادروا الفرار وانهزموا ، فذلك قوله تعالى : { من بعد ما أراكم ما تحبون } فيكون المجرور متعلّقاً بفشلهم . والكلام على هذا تشديد في الملام والتنديم .
والأظهر عندي أن يكون معنى ما تحبّون هو الغنيمة فإنّ المال محبوب ، فيكون المجرور يتنازعه كُلّ من ( فشلتم ، وتنازعتم ، وعصيتم ) ، وعدل عن ذكر الغنيمة باسمها ، إلى الموصول تنبيهاً على أنَّهم عجّلوا في طلب المَال المحبوب ، والكلام على هذا تمهيد لبساط المعذرة إذ كان فشلهم وتنازعهم وعصيانهم عن سبب من أغراض الحرب وهو المعبّر عنه ب ( إحدى الحسنيين ) ولم يكن ذلك عن جبن ، ولا عن ضعف إيمان ، أو قصد خذلان المسلمين ، وكلّه تمهيد لما يأتي من قوله : { ولقد عفا عنكم } .
وقوله : { منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الأخرة } تفصيل لتنازعتم ، وتبيين ل ( عصيتم ) ، وتخصيص له بأنّ العاصين بعض المخاطبين المتنازعين ، إذ الَّذين أرادوا الآخرة ليسوا بعاصين ، ولذلك أخّرت هاته الجملة إلى بعد الفعلين ، وكان مقتضى الظاهر أن يعقب بها قوله : { وتنازعتم في الأمر } وفي هذا الموضع للجملة ما أغنى عن ذكر ثلاث جمل وهذا من أبدع وجوه الإعجاز ، والقرينة واضحة .
والمراد بقوله : { منكم من يريد الدنيا } إرادة نعمة الدنيا وخيرها ، وهي الغنيمة ، لأنّ من أراد الغنيمة لم يحرص على ثواب الامتثال لأمر الرسول بدون تأويل ، وليس هو مفرّطاً في الآخرة مطلقاً ، ولا حاسباً تحصيل خير الدنيا في فعله ذلك مفيتاً عليه ثواب الآخرة في غير ذلك الفعل ، فليس في هذا الكلام ما يدلّ على أنّ الفريق الَّذين أرادوا ثواب الدنيا قد ارتدّوا عن الإيمان حينئذ ، إذ ليس الحرص على تحصيل فائدة دنيوية من فعل من الأفعال ، مع عدم الحرص على تحصيل ثواب الآخرة من ذلك الفعل بِدالَ على استخفاف بالآخرة ، وإنكار لها ، كما هو بيّن ، ولا حاجة إلى تقدير : منكم من يريد الدنيا ، فقط .
وإنَّما سمّيت مخالفة من خالف أمر الرسول عصياناً ، مع أن تلك المخالفة كانت عن اجتهاد لا عن استخفاف ، إذ كانوا قالوا : إنّ رسول الله أمرنا بالثبات هنا لحماية ظهور المسلمين ، فلمَّا نصر الله المسلمين فما لنا وللوقوف هنا حتَّى تفوتنا الغنائم ، فكانوا متأوَّلين ، فإنَّما سمّيت هنا عصياناً لأنّ المقام ليس مقام اجتهاد ، فإنّ شأن الحرب الطاعة للقائد من دون تأويل ، أو لأنّ التأويل كان بعيداً فلم يعذروا فيه ، أو لأنَّه كان تأويلاً لإرضاء حبّ المال ، فلم يكن مكافئاً لدليل وجوب طاعة الرّسول .
وإنَّما قال : { ثم صرفكم عنهم ليبتليكم } ليدلّ على أنّ ذلك الصرف بإذن الله وتقديره ، كما كان القتل بإذن الله وأنّ حكمته الابتلاء ، ليظهر للرسول وللنَّاس مَن ثبت على الإيمان من غيره ، ولأنّ في الابتلاء أسراراً عظيمة في المحاسبة بين العبد وربِّه سبحانه وقد أجمل هذا الابتلاء هنا وسيبيّنه .
وعُقب هذا الملام بقوله : { ولقد عفا عنكم } تسكيناً لخواطرهم ، وفي ذلك تلطّف معهم على عادة القرآن في تقريع المؤمنين ، وأعظم من ذلك تقديم العفو على الملام في ملام الرسول عليه السلام في قوله تعالى : { عفا اللَّه عنك لم أذنت لهم } [ التوبة : 43 ] ، فتلك رتبة أشرف من رتبة تعقيب الملام بذكر العفو ، وفيه أيضاً دلالة على صدق إيمانهم إذ عجل لهم الإعلام بالعفو لكيلا تطير نفوسهم رهبة وخوفاً من غضب الله تعالى .
وفي تذييله بقوله : { والله ذو فضل على المؤمنين } تأكيد ما اقتضاه قوله : { ولقد عفا عنكم } والظاهر أنَّه عفو لأجل التأويل ، فلا يحتاج إلى التَّوبة ، ويجوز أن يكون عفواً بعدما ظهر منهم من الندم والتَّوبة ، ولأجل هذا الاحتمال لم تكن الآية صالحة للاستدلال على الخوارج والمعتزلة القائلين بأنّ المعصية تسلب الإيمان .