البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَلَقَدۡ صَدَقَكُمُ ٱللَّهُ وَعۡدَهُۥٓ إِذۡ تَحُسُّونَهُم بِإِذۡنِهِۦۖ حَتَّىٰٓ إِذَا فَشِلۡتُمۡ وَتَنَٰزَعۡتُمۡ فِي ٱلۡأَمۡرِ وَعَصَيۡتُم مِّنۢ بَعۡدِ مَآ أَرَىٰكُم مَّا تُحِبُّونَۚ مِنكُم مَّن يُرِيدُ ٱلدُّنۡيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ ٱلۡأٓخِرَةَۚ ثُمَّ صَرَفَكُمۡ عَنۡهُمۡ لِيَبۡتَلِيَكُمۡۖ وَلَقَدۡ عَفَا عَنكُمۡۗ وَٱللَّهُ ذُو فَضۡلٍ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (152)

الحس : القتل الذريع ، يقال : حسه يحسه .

قال الشاعر :

حسسناهم بالسيف حساً فأصبحت *** بقيتهم قد شردوا وتبدّدوا

وجراد محسوس قتله البرد ، وسنة حسوس أتت على كل شيء .

التنازع : الاختلاف ، وهو من النزع وهو الجذب .

ونزع ينزع جذب ، وهو متعد إلى واحد .

ونازع متعد إلى اثنين ، وتنازع متعد إلى واحد .

قال :

فلما تنازعنا الحديث وأسمحت *** هصرت بغصن ذي شماريخ ميال

{ ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون } هذا جواب لمن رجع إلى المدينة من المؤمنين قالوا : وعدنا الله النصر والإمداد بالملائكة ، فمن أي وجه أتينا فنزلت إعلاماً أنه تعالى صدقهم الوعد ونصرهم على أعدائهم أولاً ، وكان الإمداد مشروطاً بالصبر والتقوى .

واتفق من بعضهم من المخالفة ما نص الله في كتابه ، وجاءت المخاطبة بجمع ضمير المؤمنين في هذه الآيات ، وإنْ كان لم يصدر ما يعاتب عليه من جميعهم ، وذلك على طريقة العرب في نسبة ما يقع من بعضهم للجميع على سبيل التجوز ، وفي ذلك إبقاء على مع فعل وستر ، إذ لم يعين وزجر لمن لم يفعل أن يفعل .

وصدق الوعد : هو أنهم هزموا المشركين أولاً ، وكان لعلي بن أبي طالب وحمزة بن عبد المطلب والزبير وأبي دجانة وعاصم بن أبي الأفلح بلاء عظيم في ذلك اليوم ، وهو مذكور في السير .

وكان المشركون في ثلاثة آلاف ، ومعهم مائتا فرس .

والمسلمون في سبعمائة رجل .

وتعدت صدق هنا لى اثنين ، ويجوز أن تتعدى إلى الثاني بحرف جر ، تقول : صدقت زيداً الحديث ، وصدقت زيداً في الحديث ، ذكرها بعض النحويين في باب ما يتعدى إلى اثنين .

ويجوز أن يتعدى إلى الثاني بحرف الجر ، فيكون من باب استغفر .

واختاروا العامل في إذ صدقكم .

ومعنى تحسونهم : تقتلونهم .

وكانوا قتلوا من المشركين اثنين وعشرين رجلاً .

وقرأ عبيد بن عمير تحسونهم رباعياً من الإحساس ، أي تذهبون حسهم بالقتل .

وتمني القتل بوقت الفشل وهو : الجبن ، والضعف .

والتنازع وهو التجاذب في الأمر .

وهذا التنازع صدر من الرماة .

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رتب الرماة على فم الوادي وقال : « اثبتوا مكانكم ، وإن رأيتمونا هزمناهم ، فإنا لا نزال غالبين ما ثبتم مكانكم » ووعدهم بالنصر إن انتهوا إلى أمره .

فلما انهزم المشركون قال بعض الرماة : قد انهزموا فما موقفنا هنا ؟ الغنيمة الغنيمة ، الحقوا بالمسلمين .

وقال بعضهم : بل نثبت مكاننا كما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وقيل : التنازع هو ما صدر من المسلمين من الاختلاف حين صيح أن محمداً قد قتل .

والعصيان هو ذهاب من ذهب من الرماة من مكانه طلباً للنهب والغنيمة ، وكان خالد حين رأى قلة الرماة صاح في خيله وحمل على مَنْ بقي من الرماة فقتلهم ، وحمل على عسكر المسلمين فتراجع المشركون ، فأصيب من المسلمين يومئذ سبعون رجلاً .

{ من بعد ما أراكم ما تحبون } ، وهو ظفر المؤمنين وغلبتهم .

قال الزبير بن العوام : لقد رأيتني أنظر إلى خدم هند وصواحبها مشمرات هوارب ما دون أخذهن قليل ولا كثير ، إذ مالت الرماة إلى العسكر يريدون النهب ، وخلوا ظهورنا للخيل ، فأتينا من أدبارنا وصرخ صارخ : ألا إن محمداً قد قتل ، فانكفأنا وانكفأ القوم علينا .

وإذاً في قوله : إذا فشلتم ، قيل : بمعنى إذ ، وحتى حرف جر ولا جواب لها إذ ذاك ، ويتعلق بتحسونهم أي : تقتلونهم إلى هذا الوقت .

وقيل : حتى حرف ابتداء دخلت على الجملة الشرطية ، كما تدخل على جمل الابتداء والجواب ملفوظ به وهو قوله : وتنازعتم على زيادة الواو ، قاله : الفراء وغيره .

وثم صرفكم على زيادة ثم ، وهذان القولان واللذان قبلهما ضعاف .

والصحيح : أنه محذوف لدلالة المعنى عليه ، فقدره ابن عطية : انهزمتم .

والزمخشري : منعكم نصرة ، وغيرهما : امتحنتم .

والتقادير متقاربة .

وحذفُ جواب الشرط لفهم المعنى جائز لقوله تعالى : { فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض أو سلماً في السماء فتأتيهم بآية } تقديره فافعل ويظهر أن الجواب المحذوف غير ما قدروه وهو : انقسمتم إلى قسمين .

ويدل عليه ما بعده ، وهو نظير : { فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد } التقدير : انقسموا قسمين : فمنهم مقتصد لا يقال : كيف ، يقال : انقسموا فيمن فشل وتنازع ، وعصى .

لأن هذه الأفعال لم تصدر من كلهم ، بل من بعضهم كما ذكرناه في أول الكلام على هذه الآية .

وقال أبو بكر الرازي : دلت هذه الآية على تقدم وعد الله تعالى للمؤمنين بالنصر على عدوهم ما لم يعصوا بتنازعهم وفشلهم ، وكان كما أخبر به هزموهم وقتلوا ، ودل ذلك على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم النبي بأن الإخبار بالغيوب من خصائص الربوبية وصفات الألوهية لا يطلع عليها إلا من أطلعه الله عليها ، ولا ينتهي علمها إلينا إلا على لسان رسول يخبر بها عن الله تعالى .

{ منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة } قال ابن عباس وجمهور المفسرين : الدنيا الغنيمة .

وقال ابن مسعود ، ما شعرنا أن أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا حتى كان يوم أحد ، والذين أرادوا الآخرة هم الذين ثبتوا في مركزهم مع أميرهم عبد الله بن جبير في نفر دون العشرة قتلوا جميعاً ، وكان الرماة خمسين ذهب منهم نيف على أربعين للنهب وعصوا الأمر .

وممن أراد الآخرة من ثبت بعد تخلخل المسلمين فقاتل حتى قتل ، كأنس بن النضر وغيره ممن لم يضطرب في قتاله ولا في دينه .

وهاتان الجملتان اعتراض بين المعطوف عليه والمعطوف .

{ ثم صرفكم عنهم } أي جعلكم تنصرفون .

{ ليبتليكم } أي ليمتحن صبركم على المصائب وثباتكم على الإيمان عندها .

وقيل : صرفكم عنهم أي لم تتماد الكسرة عليكم فيستأصلوكم .

وقيل : المعنى لم يكلفكم طلبهم عقيب انصرافهم .

وتأولته المعتزلة على معنى : ثم انصرفتم عنهم ، فإضافته إلى الله تعالى بإخراجه الرعب من قلوب الكافرين ابتلاء للمؤمنين .

وقيل : معنى ليبتليكم أي لينزل بكم ذلك البلاء من القتل والتمحيص .

{ ولقد عفا عنكم } قيل : عن عقوبتكم على فراركم ، ولم يؤاخذكم به .

وقيل : برد العدو عنكم .

وقيل : بترك الأمر بالعود إلى قتالهم من فوركم .

وقيل : بترك الاستئصال بعد المعصية والمخالفة .

فمعنى عفا عنكم أبقى عليكم .

قال الحسن : قتل منهم جماعة سبعون ، وقتل عم النبي صلى الله عليه وسلم ، وشج وجهه وكسرت رباعيته .

وإنما العفو إن لم يستأصلهم هؤلاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وفي سبيل الله غضاب لله يقاتلون أعداء الله ، نهوا عن شيء فضيعوه ، فوالله ما تركوا حتى غموا بهذا الغم .

يا فسق الفاسقين اليوم يحل كل كبيرة ، ويركب كل داهية ، ويسحب عليها ثيابه ، ويزعم أن لا بأس عليه فسوف يعلم انتهى كلام الحسن .

والظاهر أن العفو إنما هو عن الذنب ، أي لم يؤاخذكم بالعصيان .

ويدل عليه قرينة قوله : وعصيتم .

والمعنى : أن الذنب كان يستحق أكثر مما نزل بكم ، فعفا عنكم ، فهو إخبار بالعفو عما كان يستحق بالذنب من العقاب .

وقال بهذا : ابن جريج ، وابن إسحاق ، وجماعة .

وفيه مع ذلك تحذير .

{ والله ذو فضل على المؤمنين } أي في الأحوال ، أو بالعفو .

/خ152