محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{وَلَقَدۡ صَدَقَكُمُ ٱللَّهُ وَعۡدَهُۥٓ إِذۡ تَحُسُّونَهُم بِإِذۡنِهِۦۖ حَتَّىٰٓ إِذَا فَشِلۡتُمۡ وَتَنَٰزَعۡتُمۡ فِي ٱلۡأَمۡرِ وَعَصَيۡتُم مِّنۢ بَعۡدِ مَآ أَرَىٰكُم مَّا تُحِبُّونَۚ مِنكُم مَّن يُرِيدُ ٱلدُّنۡيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ ٱلۡأٓخِرَةَۚ ثُمَّ صَرَفَكُمۡ عَنۡهُمۡ لِيَبۡتَلِيَكُمۡۖ وَلَقَدۡ عَفَا عَنكُمۡۗ وَٱللَّهُ ذُو فَضۡلٍ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (152)

ثم أخبرهم أنه صدقهم وعده في النصر على عدوه ، وهو الصادق الوعد ، وأنهم لو استمروا على الطاعة ولزموا أمر الرسول لاستمرت نصرتهم ، ولكن انخلعوا عن الطاعة ، وفارقوا مركزهم ففارقهم النصر ، فصرفهم عن عدوهم عقوبة وابتلاء وتعريفا لهم سوء عواقب المعصية وحسن عاقبة الطاعة بقوله : ( ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتهم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين152 ) .

( ولقد صدقكم الله وعده ) في قوله : ( وان تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم ) . ( اذ تحسونهم ) أي تقتلونهم قتلا كثيرا . من ( حسه ) إذا أبطل حسه ( بإذنه ) أي بتيسيره وتوفيقه ( حتى إذا فشلتم ) أي ضعفتم وتراخيتم بالميل الى الغنيمة ( وتنازعتم في الأمر ) أي في الإقامة بالمركز ، فقال أصحاب عبد الله : " الغنيمة . أي قوم ! الغنيمة . ظهر أصحابكم فما تنظرون ؟ قال عبد الله بن جبير : أنسيتم ما قال لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم/ فقالوا : انا والله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة ، فلما أتوهم صرفت وجوههم ، فأقبلوا منهزمين " –رواه الامام أحمد-

و ( الأمر ) إما بمعنى الشأن والقصة ، واما الذي يضاده ( النهي ) أي فيم أمرتم به من عدم البراح ( وعصيتم ) أي أمر الرسول أن " لا تبرحوا ان رأيتمونا ظهرنا عليهم ، وان رأيتموهم ظهروا علينا ، فلا تعينونا " –رواه البخاري- ( من بعد ما أراكم ما تحبون ) أي من الظفر والغنيمة ، وانهزام العدو . روى البخاري عن البراء قال : " لقينا المشركين / يومئذ ، وأجلس النبي صلى الله عليه وسلم جيشا من الرماة ، وأمر عليهم عبد الله بن جبير وقال : لا تبرحوا ان رأيتمونا ظهرنا عليهم – بلفظ ما تقدم- ثم قال البراء : فلما لقيناهم هربوا حتى رأيت النساء يشددن في الجبل ، رفعن عن سوقهن ، قد بدت خلاخلهم ، فأخذوا يقولون : الغنيمة الغنيمة " . . الحديث ( منكم من يريد الدنيا ) أي الغنيمة فترك المركز ( ومنكم من يريد الآخرة ) فثبت فيه وهم الذين نالوا شرف الشهادة ، ومنهم أنس بن النضر الأسد المقدام ، القائل وقتئذ : " اللهم ! اني أعتذر اليك مما صنع هؤلاء – يعني المسلمين- وأبرأ اليك مما جاء به / المشركون ، فتقدم بسيفه ، فلقي سعد بن معاذ ، فقال أين يا سعد ؟ اني أجد ريح الجنة دون أحد ! فمضى فقتل ، فما عرف حتى عرفته أخته بشامة أو ببنانه وبه بضع وثمانون من طعنة وضربة ورمية بسهم " –هذا لفظ البخاري- وأخرجه مسلم بنحوه ، فرضي الله عنه وأرضاه وقدس روحه الزكية ( ثم صرفكم عنهم ) أي كفكم عنهم حتى حالت الحال ، ودالت الدولة . وفيه من اللطف بالمسلمين ما لا يخفى ( ليبتليكم ) أي ليجعل ذلك الصرف محنة عليكم لتتوبوا الى الله ، وترجعوا اليه ، وتستغفروه فيما خالفتم فيه أمره ، وملتم الى الغنيمة . ثم أعلمهم أنه تعالى قد عفا عنهم بقوله : ( ولقد عفا عنكم ) أي تفضلا عليكم لإيمانكم ( والله ذو فضل على المؤمنين ) أي في الأحوال كلها ، إما بالنصرة وإما بالابتلاء ، فان الابتلاء فضل ولطف خفي ، ليتمرنوا بالصبر على الشدائد ، والثبات في المواطن ، ويتمكنوا في اليقين ، ويجعلوه ملكة لهم ، ويتحققوا ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ، ولا يميلوا الى الدنيا وزخرفها ، ولا يذهلوا عن الحق ، وليكون عقوبة عاجلة للبعض ، فيتمحصوا عن ذنوبهم ، وينالوا درجة الشهادة ، فيلقوا الله ظاهرين –أفاده القاشاني- .

لطائف

الأولى :

( إذا ) في قوله تعالى : ( حتى إذا فشلتم ) إما شرط ، أو ، لا . وعلى الأول فجوابها اما محذوف أو مذكور . فتقديره ، على كونه محذوفا ، حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون ، منعكم الله نصره – لدلالة صدر الآية عليه- أو صرتم فريقين ، لأن قوله تعالى : ( منكم من يريد . . . ) الخ يفيد فائدته ، ويؤدي معناه . وعلى كونه مذكورا فهو اما ( وعصيتم ) والواو صلة . وحكي هذا عن الكوفيين والفراء ، قالوا : ونظيره قوله تعالى : ( فلما أسلما وتله للجبين * وناديناه أن يا إبراهيم ) . والمعنى ناديناه . / وبعض من نصر هذا الوجه زعم أن من مذهب العرب إدخال الواو في جواب ( حتى إذا ) بدليل قوله تعالى : ( حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها ) . أي فتحت . وأجابوا عما أورد عليهم من لزوم تعليل الشيء بنفسه –اذ الفشل والتنازع معصية فكيف يكونان علة لها– بأن المراد من العصيان خروجهم عن ذلك المكان . ولا شك أن الفشل والتنازع هو الذي أوجب خروجهم عنه ، فلا لزوم .

واما قوله تعالى : ( صرفكم عنهم ) وكلمة ( ثم ) صلة – قاله أبو مسلم- .

وعلى الثاني أعني كونها ليست شرطا فهي اسم و ( حتى ) حرف جر بمعنى الى متعلقة بقوله تعالى : ( صدقكم ) باعتبار تضمنه لمعنى النصر كأنه قيل : لقد نصركم الله ( الى ) وقت فشلكم وتنازعكم .

الثانية :

فائدة قوله تعالى : ( من بعد ما أراكم ما تحبون ) التنبيه على عظم المعصية ، لأنهم لما شاهدوا أن الله تعالى أكرمهم بانجاز الوعد ، كان من حقهم أن يمتنعوا عن المعصية ، فلما أقدموا عليها سلبوا ذلك الإكرام .

الثالثة :

ظاهر قوله تعالى : ( ولقد عفا عنكم ) . أنه تعالى عفا عنهم من غير توبة ، لأنها لم تذكر ، فدل على أنه تعالى قد يعفو عن أصحاب الكبائر .

الرابعة :

في قوله تعالى : ( والله ذو فضل على المؤمنين ) . دليل على أن صاحب الكبيرة مؤمن ، فان الذنب في الآية كان كبيرة –والله أعلم- .