غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{وَلَقَدۡ صَدَقَكُمُ ٱللَّهُ وَعۡدَهُۥٓ إِذۡ تَحُسُّونَهُم بِإِذۡنِهِۦۖ حَتَّىٰٓ إِذَا فَشِلۡتُمۡ وَتَنَٰزَعۡتُمۡ فِي ٱلۡأَمۡرِ وَعَصَيۡتُم مِّنۢ بَعۡدِ مَآ أَرَىٰكُم مَّا تُحِبُّونَۚ مِنكُم مَّن يُرِيدُ ٱلدُّنۡيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ ٱلۡأٓخِرَةَۚ ثُمَّ صَرَفَكُمۡ عَنۡهُمۡ لِيَبۡتَلِيَكُمۡۖ وَلَقَدۡ عَفَا عَنكُمۡۗ وَٱللَّهُ ذُو فَضۡلٍ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (152)

151

ثم أكد وعد إلقاء الرعب بقوله : { ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم } تستأصلونهم قتلاً . قال أصحاب الاشتقاق : حَسَّه أي قتله لأنه أبطل حسه بالقتل كما يقال : بطنه إذا أصاب بطنه ، ورأسه إذا أصاب رأسه . { بإذنه } بعلمه . وقيل : المراد بهذا الوعد أنه صلى الله عليه وسلم رأى في المنام أنه يذبح كبشاً فصدق الله رؤياه بقتل طلحة صاحب لواء المشركين يوم أحد ، وقتل تسعة نفر بعده على اللواء . وقيل : هو ما ذكره من قوله { إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم }[ آل عمران :125 ] إلا أن هذا كان مشروطاً بشرط هو الصبر والتقوى . وقيل : المراد هو أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال للرماة : لا تبرحوا هذا المكان فإنا لا نزال غالبين ما دمتم فيه . فلما أقبل المشركون جعل الرماة يرشقون خيلهم والباقون يضربونهم بالسيوف حتى انهزموا والمسلمون على آثارهم يقتلونهم . وقيل : لما رجعوا إلى المدينة قال ناس من المؤمنين : من أين أصابنا هذا وقد وعدنا الله النصر فنزلت { حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم } قال بعض العلماء : هذا ليس بشرط فلهذا لم يقتض الجواب . والمعنى قد نصركم الله إلى حين كان منكم الفشل لأن وعدهم بالنصر كان مشروطاً بالصبر . وقال آخرون : إنه للمجازاة . ثم اختلفوا في الجزاء على وجوه : أحدها قال البصريون : إنه محذوف كما مر في الوقوف وذلك لدلالة سياق الكلام عليه . وثانيها قال الكوفيون : جوابه وعصيتم ، والواو زائدة . والمراد بالعصيان خروجهم من ذلك المكان فإن الفشل والتنازع أخرجهم من المكان الذي وقفهم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم . وثالثها قال أبو مسلم : جوابه ثم صرفكم . و " ثم " ههنا كالساقطة . وقيل : جوابه ما يدل عليه قوله : { منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة } والتقدير : حتى إذا فشلتم صرتم فريقين . والمراد بالفشل الجبن والخور ، وبالتنازع أن الرماة لما هزم المشركون ونساؤهم يصعدن الجبل وكشفن عن سوقهن بحيث بدت خلاخلهن قالوا : الغنيمة . فقال عبد الله بن جبير أمير الرماة : عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا نبرح هذا المكان . فأبوا عليه وذهبوا إلى طلب الغنيمة ، وبقي عبد الله مع طائفة دون العشرة إلى أن قتلهم المشركون . وقوله : { في الأمر } إما أن يكون بمعنى الشأن والقصة أي تنازعتم فيما كنتم فيه من الشأن ، أو بمعنى الأمر الذي يضاد النهي أي تنازعتم فيما أمركم الرسول به وعصيتم بترك ملازمة ذلك المكان .

وإنما قدم ذكر الفشل على التنازع والمعصية كأنهم فشلوا في أنفسهم عن الثبات طمعاً في الغنيمة ، ثم تنازعوا من طريق القول في أنا هل نذهب في طلب الغنيمة أم لا ، ثم اشتغل بعضهم بطلب الغنيمة . وإنما ورد الخطاب عاماً وإن كانت المعصية بمفارقة ذلك الموضع خاصة بالبعض اعتماداً على المخصص بعده وهو قوله { ومنك من يريد الآخرة } وفائدة قوله : { من بعد ما أراكم ما تحبون } التنبيه على عظم شأن المعصية لأنهم لما شاهدوا أن الله أكرمهم بإنجاز الوعد كان من حقهم أن يمتنعوا عن المعصية ، فلما أقدموا عليها سلبهم الله ذلك الإكرام وأذاقهم وبال أمرهم . قوله : { ثم صرفكم عنهم } قالت الأشاعرة : معنى هذا الصرف أنه تعالى رد المسلمين عن الكفار وحالت الريح دبوراً وكانت صباًَ حتى وقعت الهزيمة على المسلمين وقتل منهم من قتل واستولى الكفرة . ولا يتوجه عليهم إشكال لأن من مذهبهم أن الخير والشر بإرادة الله وتخليقه . وأما المعتزلة فلم يرضوا بهذا التفسير وقالوا : كيف يضيف الصرف بهذا المعنى إلى نفسه والصرف عن الكفار معصية وقد أضافها إلى الشيطان في قوله { إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا } وأيضاً إنه تعالى عاتبهم على ذلك الانصراف ، ولو كان بفعل الله لم يجز معاتبة القوم عليه كما لا يجوز المعاتبة على طولهم وقصرهم وصحتهم ومرضهم ؟ فعند ذلك ذكروا في تأويل الآية وجوهاً . قال الجبائي : إن الرماة كانوا فريقين : بعضهم فارقوا المكان أوّلاً لطلب الغنائم ، وبعضهم بقوا هناك إلى أن أحاط بهم العدو ، وعلموا أنهم لو استمروا على المكث هناك لقتلهم العدو من غير فائدة أصلاً ، فلهذا السبب جاز لهم أن يتنحوا عن ذلك الموضع إلى موضع يتحرزون فيه عن العدو . ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم ذهب إلى الجبل في جماعة من أصحابه فتحصنوا به ، فلما كان ذلك الانصراف جائزاً أضافه الله إلى نفسه بمعنى أنه كان يأمره وبإذنه . ثم قال { ليبتليكم } والمراد أنه تعالى لما صرفهم إلى ذلك المكان وتحصنوا فيه أمرهم هناك بالجهاد والذب عن بقية المسلمين . ولا شك أن الإقدام على الجهاد بعد الانهزام وبعد أن شاهدوا في تلك المعركة قتل أقاربهم وأحبائهم ، من أعظم أنواع الابتلاء ، فإذن الآية مشتملة على المعذورين ، في الانصراف وعلى غير المعذورين . فقوله : { ثم صرفكم عنهم } يرجع إلى المعذورين ، وقوله { ولقد عفا عنكم } يرجع إلى غير المعذورين . وسبب العفو ما علم من ندمهم على ما فرط منهم من عصيان أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال الكعبي : { ثم صرفكم عنهم } بأن لم يأمركم بمعاودتهم من فورهم { ليبتليكم } بكثرة الأنعام عليكم والتخفيف عنكم . وقال أبو مسلم الأصفهاني : المعنى من الصرف أنه تعالى أزال ما كان في قلوب الكفار من الرعب من المسلمين عقوبة لهم على عصيانهم وفشلهم ، ومعنى الابتلاء أنه جعل ذلك الصرف محنة عليهم ليتوبوا عما خالفوا فيه أمره ، ثم أعلمهم أنه قد عفا عنهم .

قال القاضي : ظاهر قوله : { ولقد عفا عنكم } يقتضي تقدم ذنب منهم . فإن كان ذلك الذنب من الصغائر صح أن يصف نفسه بالعفو عنهم من غير توبة ، وإن كان من باب الكبائر فلا بد من إضمار توبتهم لقيام الدلالة على أن صاحب الكبيرة إذا لم يتب لم يكن من أهل العفو . وقالت الأشاعرة : لا شك أن ذلك الذنب كان من الكبائر لأنهم خالفوا صريح نص الرسول ، وصارت تلك المخالفة سبباً لانهزام عسكر الإسلام ولقتل جم غفير من الصحابة . ثم إن ظاهر الآية دل على أنه تعالى قد عفا عنهم من غير توبة لأنها غير مذكورة فصارت الآية دليلاً على أنه قد يعفو عن أصحاب الكبائر . { والله ذو فضل على المؤمنين } يتفضل عليهم بالعفو أو هو متفضل عليهم في جميع الأحوال ، سواء كانت الدولة لهم أو عليهم ، لأن الابتلاء رحمة كما أن النصرة رحمة . وقد يستدل بالآية على أن صاحب الكبيرة مؤمن لأنه سماهم مؤمنين خلاف ما يقوله المعتزلة من أنه لا مؤمن ولا كافر .

/خ160