فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{وَلَقَدۡ صَدَقَكُمُ ٱللَّهُ وَعۡدَهُۥٓ إِذۡ تَحُسُّونَهُم بِإِذۡنِهِۦۖ حَتَّىٰٓ إِذَا فَشِلۡتُمۡ وَتَنَٰزَعۡتُمۡ فِي ٱلۡأَمۡرِ وَعَصَيۡتُم مِّنۢ بَعۡدِ مَآ أَرَىٰكُم مَّا تُحِبُّونَۚ مِنكُم مَّن يُرِيدُ ٱلدُّنۡيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ ٱلۡأٓخِرَةَۚ ثُمَّ صَرَفَكُمۡ عَنۡهُمۡ لِيَبۡتَلِيَكُمۡۖ وَلَقَدۡ عَفَا عَنكُمۡۗ وَٱللَّهُ ذُو فَضۡلٍ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (152)

قوله : { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ } نزلت لما قال بعض المسلمين من أين أصابنا هذا ، وقد وعدنا الله النصر ، وذلك أنه كان الظفر لهم في الابتداء ، حتى قتلوا صاحب لواء المشركين ، وتسعة نفر بعده ؛ فلما اشتغلوا بالغنيمة ، وترك الرماة مركزهم طلباً للغنيمة كان ذلك سبب الهزيمة . والحسّ : الاستئصال بالقتل ، قاله أبو عبيد . يقال : جراد محسوس : إذا قتله البرد ، وسنة حسوس : أي : جدبة تأكل كل شيء . قيل : وأصله من الحسّ الذي هو الإدراك بالحاسة ، فمعنى حسه : أذهب حسه بالقتل ، وتحسونهم : تقتلونهم ، وتستأصلونهم ، قال الشاعر :

حسسناهم بالسيف حسَّاً فأصْبَحت *** بِقيَّتهُم قد شُرِّدوا وتَبَدَّدوا

وقال جرير :

تَحُسَّهُم السّيوفُ كما تسامىَ *** حَرِيقُ النَّارِ في الأجِمِ الحَصِيدِ

{ بِإِذْنِهِ } أي : بعلمه ، أو بقضائه { حتى إِذَا فَشِلْتُمْ } أي : جبنتم وضعفتم ، قيل : جواب حتى محذوف تقديره امتحنتم ، وقال الفراء : جواب حتى قوله : { وتنازعتم } والواو مقحمة زائدة ، كقوله : { فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ }

[ الصافات : 103 ] وقال أبو علي : يجوز أن يكون الجواب صرفكم عنهم ، وقيل : فيه تقديم وتأخير ، أي : حتى إذا تنازعتم ، وعصيتم فشلتم . وقيل : إن الجواب عصيتم ، والواو مقحمة . وقد جوّز الأخفش مثله في قوله تعالى : { حتى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ } [ التوبة : 118 ] ، وقيل : " حتى " بمعنى " إلى " ، وحينئذ لا جواب لها ، والتنازع المذكور هو ما وقع من الرماة حين قال بعضهم : نلحق الغنائم ، وقال بعضهم : نثبت في مكاننا ، كما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم . ومعنى قوله : { من بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ ما تُحِبُّونَ } ما وقع لهم من النصر في الابتداء في يوم أحد ، كما تقدّم : { مِنكُم من يُرِيدُ الدُّنْيَا } يعني : الغنيمة { وَمِنكُم من يُرِيدُ الآخرة } أي : الأجر بالبقاء في مراكزهم امتثالاً لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم { ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ } أي : ردّكم الله عنهم بالانهزام بعد أن استوليتم عليهم ليمتحنكم { وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ } لما علم من ندمكم ، فلم يستأصلكم بعد المعصية ، والمخالفة ، والخطاب لجميع المنهزمين ، وقيل : للرماة فقط .

/خ153