التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز  
{وَلَقَدۡ صَدَقَكُمُ ٱللَّهُ وَعۡدَهُۥٓ إِذۡ تَحُسُّونَهُم بِإِذۡنِهِۦۖ حَتَّىٰٓ إِذَا فَشِلۡتُمۡ وَتَنَٰزَعۡتُمۡ فِي ٱلۡأَمۡرِ وَعَصَيۡتُم مِّنۢ بَعۡدِ مَآ أَرَىٰكُم مَّا تُحِبُّونَۚ مِنكُم مَّن يُرِيدُ ٱلدُّنۡيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ ٱلۡأٓخِرَةَۚ ثُمَّ صَرَفَكُمۡ عَنۡهُمۡ لِيَبۡتَلِيَكُمۡۖ وَلَقَدۡ عَفَا عَنكُمۡۗ وَٱللَّهُ ذُو فَضۡلٍ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (152)

قوله تعالى : ( ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم مّن يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين إذ تصعدون ولا تلون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم فأثابكم غما بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم والله خبير بما تعلمون ) .

روى البخاري في ذلك عن البراء قال : لقينا المشركين يومئذ وأجلس النبي صلى الله عليه و سلم جيشا من الرماة وأمر عليهم عبد الله بن جبير وقال : " لا تبرحوا ، إن رأيتمونا ظهرنا عليهم فلا تبرحوا ، وإن رأيتموهم ظهروا علينا فلا تعينونا " فلما لقيناهم هربوا حتى رأيت النساء يتشددن في الجبل رفعن عن سوقهن قد بدت خلاخلهن فأخذوا يقولون : الغنيمة الغنيمة ، فقال عبد الله بن جبير : عهد إلى النبي صلى الله عليه و سلم أن لا تبرحوا فأبوا ، فلما أبوا صرف وجوههم فأصيب سبعون قتيلا ، فأشرف أبو سفيان فقال : أفي القوم محمد ؟ فقال : " لا تجيبوه " فقال : أفي القوم ابن أبي قحافة ؟ قال : " لا تجيبوه " فقال : أفي القوم ابن الخطاب ؟ فقال : " لا تجيبوه " فقال : إن هؤلاء قتلوا ، فلو كانوا أحياء لأجابوا ، فلم يملك عمر نفسه فقال له : كذبت يا عدو الله أبقى الله لك ما يحزنك . قال أبو سفيان : اعل هبل . فقال النبي صلى الله عليه و سلم : " أجيبوه " قالوا : ما نقول ؟ قال : " قولوا : الله أعلى وأجل " قال أبو سفيان : لنا العزى ولا عزى لكم ، فقال النبي صلى الله عليه و سلم : " أجيبوه " قالوا : ما نقول ؟ قال : " قولوا : الله مولانا ولا مولى لكم " قال أبو سفيان : يوم بيوم بدر ، والحرب سجال : وستجدون مثله ( تنكيلا ) لم آمر بها ولم تسؤني{[610]} .

ومن رواية الإمام أحمد عن ابن عباس أن المسلمين نظروا فإذا حمزة قد بقر بطنه وأخذت هند كبده فلاكتها فلم تستطع أن تأكلها . فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " أكلت شيئا " قالوا : لا . قال : " ما كان الله ليدخل شيئا من حمزة في النار " {[611]}

قوله : ( ولقد صدقكم الله وعده ) وذلك لما قال بعض المسلمين : من أين أصابنا هذا وقد وعدنا الله النصر ، فأجابهم الله بأن الغلبة كانت لهم ابتداء فقد قتلوا صاحب لواء المشركين وتسعة نفر بعده ، لكنهم بعد ذلك اشتغلوا بالغنيمة ، وترك الرماة أماكنهم طلبا للغنيمة ، فكان ذلك سببا لهزيمتهم .

وقوله : ( إذ تحسونهم بإذنه ) من الحس وهو القتل والاستئصال{[612]} والمعنى أنكم كنتم تقتلونهم بعلم الله وبتسليطهم عليهم .

وقوله : ( حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون ) كلمة حتى للغاية ، بمعنى إلى أن . وتقدير الكلام أنكم كنتم غالبين تقتلونهم إلى أن ( فشلتم ) أي ضعفتم وفررتم ( وتنازعتم في الأمر ) أي اختلفتم- أي الرماة حين قال بعضهم لبعض : نلحق الغنائم . وقال بعضهم : بل نثبت في مكاننا الذي أمرنا النبي صلى الله عليه و سلم بالثبوت فيه . ثم خالفتم أمر الرسول صلى الله عليه و سلم بالثبوت فيه وذلك من بعد الغلبة التي كانت لكم أول الأمر في أحد . وفي ذلك قال سبحانه : ( وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ) أي أن فريقا منكم جنح للدنيا وهي الغنيمة . قال ابن مسعود في هذا : ما شعرنا أن أحدا من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم يريد الدنيا وعرضها حتى كان يوم أحد ، لكن آخرين ثبتوا في أماكنهم ولم يخالفوا أمر نبيهم صلى الله عليه و سلم مع أميرهم عبد الله بن جبير ، فحمل عليه خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل مع المشركين فقتلوه مع من بقي رحمهم الله .

قوله : ( ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ) أي ردكم الله عنهم بالانهزام بعد أن ظفرتم بهم وغلبتموهم ؛ وذلك ليمتحنكم .

قوله : ( ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين ) أي لم يستأصلكم بعد المعصية والمخالفة لما علمه من ندمكم . والله تعالى متفضل على المؤمنين بالعفو والمغفرة ، بل إنه متفضل عليهم في كل الأحوال سواء أديل لهم أو أديل عليهم .


[610]:- تفسير ابن كثير جـ 1 ص 413.
[611]:- تفسير ابن كثير جـ 1 ص 412.
[612]:- القاموس المحيط جـ 2 ص 214.