لباب التأويل في معاني التنزيل للخازن - الخازن  
{وَلَقَدۡ صَدَقَكُمُ ٱللَّهُ وَعۡدَهُۥٓ إِذۡ تَحُسُّونَهُم بِإِذۡنِهِۦۖ حَتَّىٰٓ إِذَا فَشِلۡتُمۡ وَتَنَٰزَعۡتُمۡ فِي ٱلۡأَمۡرِ وَعَصَيۡتُم مِّنۢ بَعۡدِ مَآ أَرَىٰكُم مَّا تُحِبُّونَۚ مِنكُم مَّن يُرِيدُ ٱلدُّنۡيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ ٱلۡأٓخِرَةَۚ ثُمَّ صَرَفَكُمۡ عَنۡهُمۡ لِيَبۡتَلِيَكُمۡۖ وَلَقَدۡ عَفَا عَنكُمۡۗ وَٱللَّهُ ذُو فَضۡلٍ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (152)

قوله عز وجل : { ولقد صدقكم الله وعده } قال محمد بن كعب القرظي : لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من أحد إلى المدينة وقد أصابهم ما أصابهم قال ناس من الصحابة من أين أصابنا هذا وقد وعدنا الله النصر فأنزل الله تعالى : { ولقد صدقكم الله وعده } يعني بالنصر والظفر وذلك أن الظفر كان للمسلمين في الابتداء وقيل إن الله وعد المؤمنين النصر بأحد فنصرهم فلما خالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وطلبوا الغنيمة هزموا { إذ تحسونهم } يعني إذ تقتلون الكفار قتلاً ذريعاً وقيل معنى تحسونهم تستأصلونهم بالقتل { بإذنه } يعني بعلم الله وأمره وقيل بقضاء الله وقدره { حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم } قال الفراء فيه تقديم وتأخير تقديره حتى إذا تنازعتم في الأمر وعصيتم فشلتم . وقيل معناه ولقد صدقكم الله وعده بالنصر إلى أن كان منكم الفشل والتنازع والمعصية وقيل فيه معنى الشرط وجوابه محذوف تقديره حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم منعكم الله النصر ومعنى فشلتم ضعفتم والفشل الضعف مع جبن ومعنى التنازع الاختلاف وكان اختلافهم وتنازعهم أن الرماة الذين كانوا مع عبد الله بن جبير لما انهزم المشركون قال بعضهم لبعض أي قوم ما نصنع بمقامنا ها هنا وقد انهزم المشركون ثم أقبلوا على الغنيمة ، وقال بعضهم لبعض لا تجاوزوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وثبت عبد الله بن جبير أمير القوم في نفر يسير دون العشرة ممن كان معه فما رأى خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل ذلك حملوا على الرماة الذين ثبتوا مع عبد الله بن جبير وأصحابه وأقبلوا على المسلمين وتحولت الريح دبوراً بعد ما كانت صباً ، وانقضت صفوف المسلمين واختلطوا فجعلوا يقتلون على غير شعار يضرب بعضهم بعضاً وما يشعرون بذلك من الدهش ونادى إبليس أن محمداً قد قتل فكان ذلك سبب هزيمة المسلمين وقوله : وعصيتم يعني أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أمركم به من لزوم المركز { من بعد ما أراكم ما تحبون } من النصر والظفر والغنيمة يا معشر المسلمين { منكم من يريد الدنيا } يعني الذين تركوا المركز وأقبلوا على النهب { ومنكم من يريد الآخرة } يعني الذين ثبتوا مع أميرهم عبد الله بن جبير حتى قتلوا قاله عبد الله بن مسعود ما شعرت أن أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا حتى كان يوم أحد نزلت هذه الآية { ثم صرفكم عنهم } يعني يا معشر المسلمين يعني عن المشركين بالهزيمة { ليبتليكم } يعني ليمتحنكم وقيل لينزل عليكم البلاء لتتوبوا إليه وتستغفروه وقيل معناه ليختبركم وهو أعلم ليتميز المؤمن من المنافق ومن يريد الدنيا ممن يريد الآخرة { ولقد عفا عنكم } يعني ولقد عفا الله عنكم أيها المخالفون أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يستأصلكم بعد المخالفة والمعصية وقيل : عفا عن عقوبتكم أيها المخالفون { والله ذو فضل على المؤمنين } وهذا من تمام نعمه على عباده المؤمنين لأنه نصرهم أولاً ثم عفا عن المذنبين منهم ثانياً لأنه ذو الفضل والطول والإحسان . وفي الآية دليل على أن صاحب الكبيرة مؤمن وأن الله تعالى يعفو عنه بفضله وكرمه إن شاء لأنه سماهم مؤمنين مع ما ارتكبوه من مخالفة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي كبيرة وعفا عنهم بعد ذلك .