صَدَقَ يتعدى لاثنين ، أحدهما بنفسه ، والآخر بالحرفِ ، وقد يُحْذَف ، كهذه الآية .
والتقدير : صدقكم في وعده ، كقولهم : صَدقتُه في الحديث وصدقته الحديث و{ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ } معمول لِ " صَدَقَكُمْ " أي : صدقكم في ذلك الوقتِ ، وهو وقتُ حَسِّهِم ، أي : قَتْلهم .
وأجاز أبو البقاء أن يكون معمولاً للوعد في قوله : " وَعْدَه " - وفيه نظرٌ ؛ لأن الوعد متقدِّمٌ على هذا الوقت .
يقال : حَسَسْتُه ، أحَسُّه ، وقرأ عُبَيْد بن عُمَير : تُحِسُّونَهُم - رباعياً - أي : أذهبتم حِسَّهم بالقتل .
قال أبو عبيدةَ ، والزَّجَّاجُ : الحَسُّ : الاستئصال بالقَتْل .
حَسَسْنَاهُمُ بِالسَّيْفِ حَسًّا فأصْبَحَتْ *** بَقِيَّتُهُمْ قَدْ شُرِّدُوا وَتَبَدَّدُوا{[6065]}
تَحُسُّهُمُ السُّيُوفُ كَمَا تَسَامَى *** حَرِيقُ النَّارِ فِي الأجَم الْحَصِيدِ{[6066]}
ويقال : جراد محسوس - إذ قتله البردُ - والبرد محسة للنبت : - أي : محرقة له ، ذاهبته . وسنة حَسُوسٌ : أي : جدبة ، تأكل كلَّ شيءٍ .
إذَا شَكَوْنَا سَنَةً حَسُوسَا *** تَأكُلُ بَعْدَ الأخْضَرِ الْيَبِيسَا{[6067]}
وأصله من الحِسّ - الذي هو الإدراك بالحاسة- .
قال أبو عبيدٍ : الحَسُّ : الاستئصال بالقتل واشتقاقه من الحِسّ ، حَسَّه - إذا قتله - لأنه يُبْطل حِسَّه بالقتل ، كما يقال : بَطَنَهُ - إذا أصاب بطنه ، وَرَأسَهُ ، إذا أصاب رأسه .
و " بإذْنِهِ " متعلق بمحذوف ؛ لأنه حالٌ من فاعل " تَحُسُّونَهُمْ " ، أي : تقتلونهم مأذوناً لكم في ذلك .
قال القرطبيُّ : " ومعنى قوله : " بإذْنه " أي : بعلمه ، أو بقضائه وأمره " .
وجه النظم : قال محمدُ بن كَعْب القُرَظيّ : لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابُه إلى المدينة من أحدٍ - وقد أصابهم ما أصابهم - قال ناسٌ من أصحابه : من أين أصابنا هذا ، وقد وعدنا اللهُ بالنصرِ ؟ فأنزلَ اللهُ هذه الآية ؛ لأنَّ النصرَ كان للمسلمين في الابتداء{[6068]} .
وقيل : كان النبي صلى الله عليه وسلم رأى في المنام أنه يذبح كَبْشاً ، فَصَدَقَ اللهُ رُؤيَاهُ بِقَتْلِ طَلْحَةَ بن عثمان - صاحب لواء المشركين يوم أُحُدٍ - وقُتِل بعده تسعةُ نفر على اللواء ، فذلك قوله تعالى : { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ } يريد : تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم{[6069]} .
وقيل : يجوز أن يكون هذا الوعد ما ذكره في قوله تعالى : { إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ } [ آل عمران : 125 ] إلا أن هذا مشروطاً بشرط الصبرِ والتقوى .
وقيل : يجوز أن يكون هذا الوعد هو قوله : { سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ } [ آل عمران : 151 ] .
وقيل : الوعد هو قول النبي صلى الله عليه وسلم للرُّماة : لا تبرحوا عن هذا المكانَ ؛ فإنا لا نزال غالبين ما دُمْتم في هذا المكان .
قال أبو مسلم : لما وعَدهم اللهُ - تعالى - في الآية المتقدمة - بإلقاء الرعب في قلوب الكفارِ ، أكد ذلك بأن ذكرهم ما أنجزهم من الوعدِ بالصبر في واقعة أُحُدٍ ، فإنه لما وعدهم بالنصر - بشرط أن يتقوا ويصبروا فحين أتَوْا بذلك الشرطِ ، وفى الله تعالى لهم بالمشروطِ .
وقد تقدم في قصة أُحُد - أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل أُحُداً خَلْفَ ظَهْره ، واستقبل المدينة ، وأقام الرماةَ عند الجبلِ ، وأمرهم أن يثبتوا هناك ، ولا يبرحوا - سواء كانت النُّصْرَة للمسلمين أو عليهم - فلما أقبل المشركونَ جعل الرُّمَاة يَرْشُقُون خيلها ، والباقون يضربونهم بالسيوفِ ، حتّى انهزموا ، والمسلمون على آثارهم يحسونهم ، أي : يقتلونهم قتلاً كثيراً .
قوله : { حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ } في " حَتَّى " قولان :
أحدهما : أنها حرف جر بمعنى " إلى " وفي متعلقها - حينئذ - ثلاثةُ أوجهٍ :
أحدها : أنها متعلقة ب " تَحسُّونَهُمْ " اي : تقتلونهم إلى هذا الوقت .
الثاني : أنها متعلقة ب " صَدَقَكُمْ " وهو ظاهر قول الزمخشريّ ، قال : " ويجوز أن يكونَ المعنى : صدقكم اللهُ وَعْدَه إلى وقت فَشَلِكم " .
الثالث : أنّها متعلقة بمحذوف ، دَلَّ عليه السياقُ .
قال أبو البقاء{[6070]} : " تقديره : دام لكم ذلك إلى وقتِ فَشَلِكُم " .
القول الثاني : أنَّها حرف ابتداءٍ داخلة على الجملة الشرطية ، و " إذَا " على بابها - من كونها شرطية - وفي جوابها - حينئذٍ - ثلاثةُ أوجهٍ :
أحدها : قال الفرّاء : جوابها " وَتَنَازَعْتُمْ " وتكون الواو زائدة ، كقوله : { فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ } [ الصافات : 103-104 ] والمعنى ناديناه ، كذا - هنا - الفشل والتنازع صار موجباً للعصيان ، فكأنَّ التقدير : حتى إذا فَشِلْتُم ، وتنازعتم في الأمر عصيتم .
قال : ومذهب العرب إدخال الواو في جواب " حَتَّى " كقوله : { حَتَّى إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا } [ الزمر : 73 ] فإن قيل : قوله : { فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ } معصية ، فلو جعلنا الفشل والتنازُع علةً للمعصية لزم كونُ الشيء علةً لنفسه ، وذلك فاسدٌ .
فالجواب : أن المراد من العصيان - هنا - خروجهم عن ذلك المكانِ ، فلم يلزم تعليلُ الشيء بنفسه . ولم يَقْبَل البصريون هذا الجوابَ ؛ لأن مذهَبهمْ أنه لا يجوزُ جَعْلَ الواو زائدة .
قوله : { ثُمَّ صَرَفَكُمْ } و " ثم " زائدة .
قال أبو علي : ويجوز أن يكون الجواب { صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ } و " ثُمَّ " زائدة ، والتقدير : حتى إذا فشلتم وتنازعتم وعصيتم صرفكم عنهم . وقد أنشد بعضُ النحويين في زيادتها قول الشاعر : [ الطويل ]
أرَانِي إذَا مَا بِتُّ بِتُّ عَلَى هَوًى *** فَثُمَّ إذَا أصْبَحْتُ أصْبَحْتُ غَادِيَا{[6071]}
وجوز الأخفشُ أن تكون زائدةً في قوله تعالى : { حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ } [ التوبة : 118 ] وهذان القولان ضعيفانِ جداً .
والثالث - وهو الصحيحُ - أنه محذوف ، واختلفت عبارتهم في تقديره ، فقدَّرَه ابنُ عطيةَ : انهزمتم وقدَّره الزمخشريُّ : منعكم نصرَه .
وقدَّره أبو البقاء : بأن أمركم . ودلّ على ذلك قوله تعالى : { مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ } [ آل عمران : 152 ] .
وقيل فيه تقديمٌ وتأخيرٌ ، وتقديره : حتّى إذا تنازعتم في الأمر وعصيتم فشلتم .
وقدَّره أبو حيان : انقسمتم إلى قسمَيْن ، ويدلُّ عليه ما بعده ، وهو نظيرُ قوله : { فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ } [ لقمان : 32 ] قال أبو حيان : لا يقال : كيف يقالُ : انقسمتم إلى مريدِ الدُّنْيَا ، وإلى مريدِ الآخرةِ فيمن فشل وتنازع وعصى ؛ لأن هذه الأفعالَ لم تصدر من كُلِّهم ، بل من بعضِهِمْ .
واختلفوا في " إذا " - هذه - هل هي على بابها أم بمعنى " إذْ " ؟ والصحيح الأول ، سواء قلنا إنها شرطية أم لا .
الفشلُ : هو الضعف{[6072]} .
وقيل : الفشل : الجُبْن{[6073]} ، وليس بصحيح ؛ لقوله تعالى : { وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ }
[ الأنفال : 46 ] أي : فتضعفوا ، ولا يليق أن يكونَ المعنى فتجبنوا .
والمراد من التنازُع اختلاف الرُّماةِ حين انهزم المشركون ، فقال بعضُهم لبعض : انهزم القومُ ، فما مقامنا ؟ وأقبلوا على الغنيمة .
وقال بعضهم : لا نتجاوز أمر رسولِ اللهِ وثبت عبد الله بن جبير في نَفَرٍ يسير من أصحابه دون العَشَرة - فلما رآهم خالد بن الوليد وعكرمةُ بن أبي جهلٍ حملوا على الرُّمَاة فقتلوهم ، وأقبلوا على المسلمين ، وحالت الريحُ ، فصارت دبوراً بعد أن كانت صَباً ، وانتقضت صفوف المسلمين ، واختلطوا فجعلوا يقتتلون على غير شِعَارٍ ، يَضْرِبُ بعضهم بعضاً ما يَشْعرون من الدهش ، ونادى إبليسُ : إن محمداً قد قُتِل ، فكان ذلك سبب هزيمة المسلمينَ .
قوله : { وَعَصَيْتُمْ } يعني : أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أي خالفتم أمره بملازمة ذلك المكان { مِّن بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ } من الظفر والغنيمة .
فإن قيل : لِمَ قدم ذِكْرَ الفشل على التنازع والمعصية ؟
فالجوابُ : أن القوم لما رأوا هزيمة الكفارِ ، وطمعوا في الغنيمة ، فشلوا في أنفسهم عن الثبات ، طمعاً من الغنيمةِ ، ثم تنازعوا - بطريق القولِ في أنَّا هل نذهب لطلب الغنيمة ، أم لا ؟ ثم اشتغلوا بطلب الغنيمة .
فإن قيل : إنما عصى البعض بمفارقة ذلك المكانِ ، فلِمَ جاء العقابُ عاماً ؟
فالجوابُ : أنَّ اللفظَ - وإن كان عاماً - قد جاء المخصِّص بعده ، وهو قوله : { مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا } .
قوله : { مِّن بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ } المقصودُ منه التنبيهُ على عِظَمِ المعصية ؛ لأنهم لمَّا شاهدوا أن الله - تعالى - أكرمهم بإنجاز الوَعْد كان من حَقِّهم أن يمتنعوا عن المعصية . فلما أقدموا عليها ، سلبهم اللهُ ذلك الإكرام ، وأذاقهم وبالَ أمْرِهم .
قوله : { مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا } يعني : الذين تركوا المركز ، وأقبلوا على النهبِ { وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ } يعني : الذين ثبتوا مع عبد الله بن جُبَيْرٍ ، حتى قُتِلوا . قال عبدُ الله بن مسعودٍ : وما شعرت أن أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا ، حتى كان يومُ أحدٍ ، ونزلت هذه الآية {[6074]} .
قوله : { ثُمَّ صَرَفَكُمْ } عطفٌ على ما قبله ، والجملتان من قوله : { مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ } اعتراض بين المتعاطفين ، وقال أبو البقاء : {[6075]} { ثُمَّ صَرَفَكُمْ } معطوف على الفعل المحذوف .
يعني الذي قدره جواباً للشرط ، ولا حاجة إليه ، و " لِيَبْتَلِيَكُمْ " متعلق ب " صَرَفَكُمْ " و " أن " مضمرة بعد اللام .
اختلفوا في تفسير هذه الآية ؛ وذلك لأن صَرْفَهم عن الكفار معصية ، فكيف أضافه إلى نفسه ؟ فقال جمهورُ المفسّرينَ : الخيرُ والشر بإرادة اللهِ تَعَالَى وتخليقه ، ومعنى هذا الصَّرْفِ أنَّ اللهَ تعالى رَدَّ المسلمينَ عن الكفارِ وألقى الهزيمةَ عليهم ، وسلَّط الكفارَ عليهم .
وقالت المعتزلةُ : هذا التأويل غير جائز ؛ للقرآن والعقل ، أم القرآنُ فقوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ } [ آل عمران : 155 ] فأضاف ما كان منهم إلى فعل الشيطان فكيف يُضيفه بعد هذا إلى نفسه ؟
وأما المعقولُ فإن اللهَ تعالى عاتَبَهم على ذلك الانصراف ، ولو كان ذلك بفعل اللهِ لم تَجزْ مُعَاتَبَتَهُم عليه ، كما لا يجوز معاتبتهم على طُولِهِمْ وقِصَرِهم ، ثم ذكروا وجوهاً من التأويل :
أحدها : قال الجبائيُّ : إنَّ الرُّماةَ افترقوا فِرْقَتَيْن ، فبعضهم فارق المكان لطلب الغنائم ، وبعضهم بقي هناك ، فالذين بَقُوا أحاط بهم العَدُوُّ ، فلو استمروا هناك لقتلهم العدُوُّ من غير فائدةٍ أصْلاً ، فلهذا السبب جاز لهم أن يتنحوا عن ذلك إلى موضع يتحرزون فيه عن العدو - كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم حين ذهب إلى الجبل في جماعة من أصحابه - ولم يكونوا عُصَاةً بذلك ، فلما كان ذلك الانصراف جائزاً أضافه إلى نفسه ، بمعنى أنه كان بأمره وإذنه ، ثم قال : { لِيَبْتَلِيَكُمْ } والمرادُ : أنه - تعالى - لما صرفهم إلى ذلك المكانِ ، وتحصَّنُوا به ، أمرهم - هناك - بالجهادِ ، والذَّبِّ عن بقية المسلمينَ ، ولا شك أن الإقدامَ على الجهادِ بعد الانهزامِ ، وبعد أن شاهدوا قَتْل أقاربهم وأحِبَّائهم من أعظم أنواع الابتلاء .
فإن قيل : فعلى هذا التأويل ، هؤلاء الذين صرفهم الله عن الكفار ما كانوا مُذْنِبِين ، فلم قال : { وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ } .
قلنا : الآية مشتملة على ذِكْر مَنْ كان معذوراً في الانصرافِ ، ومَنْ لم يكن معذوراً ، أو هم الذين بدءوا بالهزيمة ، فقوله : { ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ } راجعٌ إلى المعذورينَ ؛ لأنَّ الآية لما اشتملتْ على قسمينِ ، وعلى حُكمين ، رَجَعَ كلُّ حكم إلى القسم الذي يليق به ، ونظيره : { ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ } [ التوبة : 40 ] والمرادُ الذي قال له : لا تحزن إن اللهَ مَعَنَا - وهو أبو بكر - لأنه كان خائفاً قبل هذا القولِ ، فلما سَمِعَ هذا القولَ سَكَنَ ، ثم قال : { وَأيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا } [ التوبة : 40 ] وعنى بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم دون أبي بكرٍ ؛ لأنه قد جرى ذكرهما جميعاً ، هذا قول الجبائي .
الثاني : ما ذكره أبو مسلم الأصفهاني : وهو أنَّ المرادَ من قوله : { ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ } أنه - تعالى - أزال ما كان في قلوب الكفارِ من الرُّعْبِ من المسلمينَ ؛ عقوبةً منه على عصيانهم وفَشَلِهم ، ثم قال : { لِيَبْتَلِيَكُمْ } أي : ليجعل ذلك الصَّرْف محنةً عليكم ؛ لتتوبوا إلى اللهِ ، وترجعوا إليه ، وتستغفروه من مخالفة أمرِ النبي صلى الله عليه وسلم ومَيْلكم إلى الغنيمةِ ، ثم أعلمهم أنهُ - تعالى - قد عفا عَنْهُم .
الثالثُ : قال الكَعْبي : { ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ } بأن لم يأمركم بمعاودتهم من فورهم { لِيَبْتَلِيَكُمْ } بكثرة الإنعام عليكم .
قوله : { وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ } ظاهره يقتضي تقدُّم ذَنْب منهم .
قال القاضي إنْ كان ذلك الذنبُ من الصغائر صحَّ أن يصف نفسه بأنّه عفا عنهم من غير توبة ، فإن كان من الكبائرِ ، فلا بد من إضمار توبتهم ؛ [ لإقامة ] {[6076]} الدلالةِ على أن أصحاب الكبائر إذا لم يتوبوا لم يكونوا من أهل العفو والمغفرةِ .
وأجيب بأنَّ هذا الذنبَ لا شك أنه كان كبيرة ، لأنهم خالفوا صريحَ نَصَّ الرسول صلى الله عليه وسلم وصارت تلك المخالفة سبباً لانهزام المسلمينَ ، وقُتِلَ جَمْعٌ كبيرٌ من أكابرهم ، ومن المعلوم أن ذلك كله من باب الكبائرِ .
وأيضاً ظاهر قوله تعالى : { وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ } [ الأنفال : 16 ] يدل على كونه كبيرة ، ويضعف قول من قال : إنه خاص في بَدْر ؛ لأن اللفظَ عامٌّ ، ولا تفاوت في المقصودِ ، فكان التخصيصُ ممتنعاً ، ثم إن ظاهرَ هذه الآية يدل على أنه - تعَالَى - عفا عنهم من غير توبةٍ ؛ لأنه لم يذكر التوبة ، فدلَّ على أنه - تعَالَى - قد يعفو عن أصحاب الكبائرِ ، ثم قال : { وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } وهو راجعٌ إلى ما تَقَدَّمَ من ذكر النعم ؛ فإنه نصرهم - أولاً - ثم عفا عنهم - ثانياً - وهذا يدل على أن صَاحِبَ الكبيرةِ مُؤمِنٌ .