اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَلَقَدۡ صَدَقَكُمُ ٱللَّهُ وَعۡدَهُۥٓ إِذۡ تَحُسُّونَهُم بِإِذۡنِهِۦۖ حَتَّىٰٓ إِذَا فَشِلۡتُمۡ وَتَنَٰزَعۡتُمۡ فِي ٱلۡأَمۡرِ وَعَصَيۡتُم مِّنۢ بَعۡدِ مَآ أَرَىٰكُم مَّا تُحِبُّونَۚ مِنكُم مَّن يُرِيدُ ٱلدُّنۡيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ ٱلۡأٓخِرَةَۚ ثُمَّ صَرَفَكُمۡ عَنۡهُمۡ لِيَبۡتَلِيَكُمۡۖ وَلَقَدۡ عَفَا عَنكُمۡۗ وَٱللَّهُ ذُو فَضۡلٍ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (152)

صَدَقَ يتعدى لاثنين ، أحدهما بنفسه ، والآخر بالحرفِ ، وقد يُحْذَف ، كهذه الآية .

والتقدير : صدقكم في وعده ، كقولهم : صَدقتُه في الحديث وصدقته الحديث و{ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ } معمول لِ " صَدَقَكُمْ " أي : صدقكم في ذلك الوقتِ ، وهو وقتُ حَسِّهِم ، أي : قَتْلهم .

وأجاز أبو البقاء أن يكون معمولاً للوعد في قوله : " وَعْدَه " - وفيه نظرٌ ؛ لأن الوعد متقدِّمٌ على هذا الوقت .

يقال : حَسَسْتُه ، أحَسُّه ، وقرأ عُبَيْد بن عُمَير : تُحِسُّونَهُم - رباعياً - أي : أذهبتم حِسَّهم بالقتل .

قال أبو عبيدةَ ، والزَّجَّاجُ : الحَسُّ : الاستئصال بالقَتْل .

قال الشاعر : [ الطويل ]

حَسَسْنَاهُمُ بِالسَّيْفِ حَسًّا فأصْبَحَتْ *** بَقِيَّتُهُمْ قَدْ شُرِّدُوا وَتَبَدَّدُوا{[6065]}

وقال جرير : [ الوافر ]

تَحُسُّهُمُ السُّيُوفُ كَمَا تَسَامَى *** حَرِيقُ النَّارِ فِي الأجَم الْحَصِيدِ{[6066]}

ويقال : جراد محسوس - إذ قتله البردُ - والبرد محسة للنبت : - أي : محرقة له ، ذاهبته . وسنة حَسُوسٌ : أي : جدبة ، تأكل كلَّ شيءٍ .

قال رؤية : [ الرجز ]

إذَا شَكَوْنَا سَنَةً حَسُوسَا *** تَأكُلُ بَعْدَ الأخْضَرِ الْيَبِيسَا{[6067]}

وأصله من الحِسّ - الذي هو الإدراك بالحاسة- .

قال أبو عبيدٍ : الحَسُّ : الاستئصال بالقتل واشتقاقه من الحِسّ ، حَسَّه - إذا قتله - لأنه يُبْطل حِسَّه بالقتل ، كما يقال : بَطَنَهُ - إذا أصاب بطنه ، وَرَأسَهُ ، إذا أصاب رأسه .

و " بإذْنِهِ " متعلق بمحذوف ؛ لأنه حالٌ من فاعل " تَحُسُّونَهُمْ " ، أي : تقتلونهم مأذوناً لكم في ذلك .

قال القرطبيُّ : " ومعنى قوله : " بإذْنه " أي : بعلمه ، أو بقضائه وأمره " .

فصل

وجه النظم : قال محمدُ بن كَعْب القُرَظيّ : لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابُه إلى المدينة من أحدٍ - وقد أصابهم ما أصابهم - قال ناسٌ من أصحابه : من أين أصابنا هذا ، وقد وعدنا اللهُ بالنصرِ ؟ فأنزلَ اللهُ هذه الآية ؛ لأنَّ النصرَ كان للمسلمين في الابتداء{[6068]} .

وقيل : كان النبي صلى الله عليه وسلم رأى في المنام أنه يذبح كَبْشاً ، فَصَدَقَ اللهُ رُؤيَاهُ بِقَتْلِ طَلْحَةَ بن عثمان - صاحب لواء المشركين يوم أُحُدٍ - وقُتِل بعده تسعةُ نفر على اللواء ، فذلك قوله تعالى : { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ } يريد : تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم{[6069]} .

وقيل : يجوز أن يكون هذا الوعد ما ذكره في قوله تعالى : { إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ } [ آل عمران : 125 ] إلا أن هذا مشروطاً بشرط الصبرِ والتقوى .

وقيل : يجوز أن يكون هذا الوعد هو قوله : { سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ } [ آل عمران : 151 ] .

وقيل : الوعد هو قول النبي صلى الله عليه وسلم للرُّماة : لا تبرحوا عن هذا المكانَ ؛ فإنا لا نزال غالبين ما دُمْتم في هذا المكان .

قال أبو مسلم : لما وعَدهم اللهُ - تعالى - في الآية المتقدمة - بإلقاء الرعب في قلوب الكفارِ ، أكد ذلك بأن ذكرهم ما أنجزهم من الوعدِ بالصبر في واقعة أُحُدٍ ، فإنه لما وعدهم بالنصر - بشرط أن يتقوا ويصبروا فحين أتَوْا بذلك الشرطِ ، وفى الله تعالى لهم بالمشروطِ .

فصل

وقد تقدم في قصة أُحُد - أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل أُحُداً خَلْفَ ظَهْره ، واستقبل المدينة ، وأقام الرماةَ عند الجبلِ ، وأمرهم أن يثبتوا هناك ، ولا يبرحوا - سواء كانت النُّصْرَة للمسلمين أو عليهم - فلما أقبل المشركونَ جعل الرُّمَاة يَرْشُقُون خيلها ، والباقون يضربونهم بالسيوفِ ، حتّى انهزموا ، والمسلمون على آثارهم يحسونهم ، أي : يقتلونهم قتلاً كثيراً .

قوله : { حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ } في " حَتَّى " قولان :

أحدهما : أنها حرف جر بمعنى " إلى " وفي متعلقها - حينئذ - ثلاثةُ أوجهٍ :

أحدها : أنها متعلقة ب " تَحسُّونَهُمْ " اي : تقتلونهم إلى هذا الوقت .

الثاني : أنها متعلقة ب " صَدَقَكُمْ " وهو ظاهر قول الزمخشريّ ، قال : " ويجوز أن يكونَ المعنى : صدقكم اللهُ وَعْدَه إلى وقت فَشَلِكم " .

الثالث : أنّها متعلقة بمحذوف ، دَلَّ عليه السياقُ .

قال أبو البقاء{[6070]} : " تقديره : دام لكم ذلك إلى وقتِ فَشَلِكُم " .

القول الثاني : أنَّها حرف ابتداءٍ داخلة على الجملة الشرطية ، و " إذَا " على بابها - من كونها شرطية - وفي جوابها - حينئذٍ - ثلاثةُ أوجهٍ :

أحدها : قال الفرّاء : جوابها " وَتَنَازَعْتُمْ " وتكون الواو زائدة ، كقوله : { فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ } [ الصافات : 103-104 ] والمعنى ناديناه ، كذا - هنا - الفشل والتنازع صار موجباً للعصيان ، فكأنَّ التقدير : حتى إذا فَشِلْتُم ، وتنازعتم في الأمر عصيتم .

قال : ومذهب العرب إدخال الواو في جواب " حَتَّى " كقوله : { حَتَّى إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا } [ الزمر : 73 ] فإن قيل : قوله : { فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ } معصية ، فلو جعلنا الفشل والتنازُع علةً للمعصية لزم كونُ الشيء علةً لنفسه ، وذلك فاسدٌ .

فالجواب : أن المراد من العصيان - هنا - خروجهم عن ذلك المكانِ ، فلم يلزم تعليلُ الشيء بنفسه . ولم يَقْبَل البصريون هذا الجوابَ ؛ لأن مذهَبهمْ أنه لا يجوزُ جَعْلَ الواو زائدة .

قوله : { ثُمَّ صَرَفَكُمْ } و " ثم " زائدة .

قال أبو علي : ويجوز أن يكون الجواب { صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ } و " ثُمَّ " زائدة ، والتقدير : حتى إذا فشلتم وتنازعتم وعصيتم صرفكم عنهم . وقد أنشد بعضُ النحويين في زيادتها قول الشاعر : [ الطويل ]

أرَانِي إذَا مَا بِتُّ بِتُّ عَلَى هَوًى *** فَثُمَّ إذَا أصْبَحْتُ أصْبَحْتُ غَادِيَا{[6071]}

وجوز الأخفشُ أن تكون زائدةً في قوله تعالى : { حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ } [ التوبة : 118 ] وهذان القولان ضعيفانِ جداً .

والثالث - وهو الصحيحُ - أنه محذوف ، واختلفت عبارتهم في تقديره ، فقدَّرَه ابنُ عطيةَ : انهزمتم وقدَّره الزمخشريُّ : منعكم نصرَه .

وقدَّره أبو البقاء : بأن أمركم . ودلّ على ذلك قوله تعالى : { مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ } [ آل عمران : 152 ] .

وقدره غيره : امتحنتم .

وقيل فيه تقديمٌ وتأخيرٌ ، وتقديره : حتّى إذا تنازعتم في الأمر وعصيتم فشلتم .

وقدَّره أبو حيان : انقسمتم إلى قسمَيْن ، ويدلُّ عليه ما بعده ، وهو نظيرُ قوله : { فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ } [ لقمان : 32 ] قال أبو حيان : لا يقال : كيف يقالُ : انقسمتم إلى مريدِ الدُّنْيَا ، وإلى مريدِ الآخرةِ فيمن فشل وتنازع وعصى ؛ لأن هذه الأفعالَ لم تصدر من كُلِّهم ، بل من بعضِهِمْ .

واختلفوا في " إذا " - هذه - هل هي على بابها أم بمعنى " إذْ " ؟ والصحيح الأول ، سواء قلنا إنها شرطية أم لا .

فصل

الفشلُ : هو الضعف{[6072]} .

وقيل : الفشل : الجُبْن{[6073]} ، وليس بصحيح ؛ لقوله تعالى : { وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ }

[ الأنفال : 46 ] أي : فتضعفوا ، ولا يليق أن يكونَ المعنى فتجبنوا .

والمراد من التنازُع اختلاف الرُّماةِ حين انهزم المشركون ، فقال بعضُهم لبعض : انهزم القومُ ، فما مقامنا ؟ وأقبلوا على الغنيمة .

وقال بعضهم : لا نتجاوز أمر رسولِ اللهِ وثبت عبد الله بن جبير في نَفَرٍ يسير من أصحابه دون العَشَرة - فلما رآهم خالد بن الوليد وعكرمةُ بن أبي جهلٍ حملوا على الرُّمَاة فقتلوهم ، وأقبلوا على المسلمين ، وحالت الريحُ ، فصارت دبوراً بعد أن كانت صَباً ، وانتقضت صفوف المسلمين ، واختلطوا فجعلوا يقتتلون على غير شِعَارٍ ، يَضْرِبُ بعضهم بعضاً ما يَشْعرون من الدهش ، ونادى إبليسُ : إن محمداً قد قُتِل ، فكان ذلك سبب هزيمة المسلمينَ .

قوله : { وَعَصَيْتُمْ } يعني : أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أي خالفتم أمره بملازمة ذلك المكان { مِّن بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ } من الظفر والغنيمة .

فإن قيل : لِمَ قدم ذِكْرَ الفشل على التنازع والمعصية ؟

فالجوابُ : أن القوم لما رأوا هزيمة الكفارِ ، وطمعوا في الغنيمة ، فشلوا في أنفسهم عن الثبات ، طمعاً من الغنيمةِ ، ثم تنازعوا - بطريق القولِ في أنَّا هل نذهب لطلب الغنيمة ، أم لا ؟ ثم اشتغلوا بطلب الغنيمة .

فإن قيل : إنما عصى البعض بمفارقة ذلك المكانِ ، فلِمَ جاء العقابُ عاماً ؟

فالجوابُ : أنَّ اللفظَ - وإن كان عاماً - قد جاء المخصِّص بعده ، وهو قوله : { مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا } .

قوله : { مِّن بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ } المقصودُ منه التنبيهُ على عِظَمِ المعصية ؛ لأنهم لمَّا شاهدوا أن الله - تعالى - أكرمهم بإنجاز الوَعْد كان من حَقِّهم أن يمتنعوا عن المعصية . فلما أقدموا عليها ، سلبهم اللهُ ذلك الإكرام ، وأذاقهم وبالَ أمْرِهم .

قوله : { مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا } يعني : الذين تركوا المركز ، وأقبلوا على النهبِ { وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ } يعني : الذين ثبتوا مع عبد الله بن جُبَيْرٍ ، حتى قُتِلوا . قال عبدُ الله بن مسعودٍ : وما شعرت أن أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا ، حتى كان يومُ أحدٍ ، ونزلت هذه الآية {[6074]} .

قوله : { ثُمَّ صَرَفَكُمْ } عطفٌ على ما قبله ، والجملتان من قوله : { مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ } اعتراض بين المتعاطفين ، وقال أبو البقاء : {[6075]} { ثُمَّ صَرَفَكُمْ } معطوف على الفعل المحذوف .

يعني الذي قدره جواباً للشرط ، ولا حاجة إليه ، و " لِيَبْتَلِيَكُمْ " متعلق ب " صَرَفَكُمْ " و " أن " مضمرة بعد اللام .

فصل

اختلفوا في تفسير هذه الآية ؛ وذلك لأن صَرْفَهم عن الكفار معصية ، فكيف أضافه إلى نفسه ؟ فقال جمهورُ المفسّرينَ : الخيرُ والشر بإرادة اللهِ تَعَالَى وتخليقه ، ومعنى هذا الصَّرْفِ أنَّ اللهَ تعالى رَدَّ المسلمينَ عن الكفارِ وألقى الهزيمةَ عليهم ، وسلَّط الكفارَ عليهم .

وقالت المعتزلةُ : هذا التأويل غير جائز ؛ للقرآن والعقل ، أم القرآنُ فقوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ } [ آل عمران : 155 ] فأضاف ما كان منهم إلى فعل الشيطان فكيف يُضيفه بعد هذا إلى نفسه ؟

وأما المعقولُ فإن اللهَ تعالى عاتَبَهم على ذلك الانصراف ، ولو كان ذلك بفعل اللهِ لم تَجزْ مُعَاتَبَتَهُم عليه ، كما لا يجوز معاتبتهم على طُولِهِمْ وقِصَرِهم ، ثم ذكروا وجوهاً من التأويل :

أحدها : قال الجبائيُّ : إنَّ الرُّماةَ افترقوا فِرْقَتَيْن ، فبعضهم فارق المكان لطلب الغنائم ، وبعضهم بقي هناك ، فالذين بَقُوا أحاط بهم العَدُوُّ ، فلو استمروا هناك لقتلهم العدُوُّ من غير فائدةٍ أصْلاً ، فلهذا السبب جاز لهم أن يتنحوا عن ذلك إلى موضع يتحرزون فيه عن العدو - كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم حين ذهب إلى الجبل في جماعة من أصحابه - ولم يكونوا عُصَاةً بذلك ، فلما كان ذلك الانصراف جائزاً أضافه إلى نفسه ، بمعنى أنه كان بأمره وإذنه ، ثم قال : { لِيَبْتَلِيَكُمْ } والمرادُ : أنه - تعالى - لما صرفهم إلى ذلك المكانِ ، وتحصَّنُوا به ، أمرهم - هناك - بالجهادِ ، والذَّبِّ عن بقية المسلمينَ ، ولا شك أن الإقدامَ على الجهادِ بعد الانهزامِ ، وبعد أن شاهدوا قَتْل أقاربهم وأحِبَّائهم من أعظم أنواع الابتلاء .

فإن قيل : فعلى هذا التأويل ، هؤلاء الذين صرفهم الله عن الكفار ما كانوا مُذْنِبِين ، فلم قال : { وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ } .

قلنا : الآية مشتملة على ذِكْر مَنْ كان معذوراً في الانصرافِ ، ومَنْ لم يكن معذوراً ، أو هم الذين بدءوا بالهزيمة ، فقوله : { ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ } راجعٌ إلى المعذورينَ ؛ لأنَّ الآية لما اشتملتْ على قسمينِ ، وعلى حُكمين ، رَجَعَ كلُّ حكم إلى القسم الذي يليق به ، ونظيره : { ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ } [ التوبة : 40 ] والمرادُ الذي قال له : لا تحزن إن اللهَ مَعَنَا - وهو أبو بكر - لأنه كان خائفاً قبل هذا القولِ ، فلما سَمِعَ هذا القولَ سَكَنَ ، ثم قال : { وَأيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا } [ التوبة : 40 ] وعنى بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم دون أبي بكرٍ ؛ لأنه قد جرى ذكرهما جميعاً ، هذا قول الجبائي .

الثاني : ما ذكره أبو مسلم الأصفهاني : وهو أنَّ المرادَ من قوله : { ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ } أنه - تعالى - أزال ما كان في قلوب الكفارِ من الرُّعْبِ من المسلمينَ ؛ عقوبةً منه على عصيانهم وفَشَلِهم ، ثم قال : { لِيَبْتَلِيَكُمْ } أي : ليجعل ذلك الصَّرْف محنةً عليكم ؛ لتتوبوا إلى اللهِ ، وترجعوا إليه ، وتستغفروه من مخالفة أمرِ النبي صلى الله عليه وسلم ومَيْلكم إلى الغنيمةِ ، ثم أعلمهم أنهُ - تعالى - قد عفا عَنْهُم .

الثالثُ : قال الكَعْبي : { ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ } بأن لم يأمركم بمعاودتهم من فورهم { لِيَبْتَلِيَكُمْ } بكثرة الإنعام عليكم .

قوله : { وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ } ظاهره يقتضي تقدُّم ذَنْب منهم .

قال القاضي إنْ كان ذلك الذنبُ من الصغائر صحَّ أن يصف نفسه بأنّه عفا عنهم من غير توبة ، فإن كان من الكبائرِ ، فلا بد من إضمار توبتهم ؛ [ لإقامة ] {[6076]} الدلالةِ على أن أصحاب الكبائر إذا لم يتوبوا لم يكونوا من أهل العفو والمغفرةِ .

وأجيب بأنَّ هذا الذنبَ لا شك أنه كان كبيرة ، لأنهم خالفوا صريحَ نَصَّ الرسول صلى الله عليه وسلم وصارت تلك المخالفة سبباً لانهزام المسلمينَ ، وقُتِلَ جَمْعٌ كبيرٌ من أكابرهم ، ومن المعلوم أن ذلك كله من باب الكبائرِ .

وأيضاً ظاهر قوله تعالى : { وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ } [ الأنفال : 16 ] يدل على كونه كبيرة ، ويضعف قول من قال : إنه خاص في بَدْر ؛ لأن اللفظَ عامٌّ ، ولا تفاوت في المقصودِ ، فكان التخصيصُ ممتنعاً ، ثم إن ظاهرَ هذه الآية يدل على أنه - تعَالَى - عفا عنهم من غير توبةٍ ؛ لأنه لم يذكر التوبة ، فدلَّ على أنه - تعَالَى - قد يعفو عن أصحاب الكبائرِ ، ثم قال : { وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } وهو راجعٌ إلى ما تَقَدَّمَ من ذكر النعم ؛ فإنه نصرهم - أولاً - ثم عفا عنهم - ثانياً - وهذا يدل على أن صَاحِبَ الكبيرةِ مُؤمِنٌ .


[6065]:ينظر البيت في فتح القدير 1/389 والجامع لأحكام القرآن 4/235 والبحر المحيط 3/71.
[6066]:ينظر البيت في ديوانه ص 143 وفتح القدير 1/389 والجامع لأحكام القرآن 4/235.
[6067]:ينظر البيت في ديوانه ص 72 ومجاز القرآن 1/105 واللسان (حسس) وقفه اللغة وسر العربية ص 69 والجامع لأحكام القرآن 5/235 والسيرة النبوية 2/114.
[6068]:ذكره الفخر الرازي في "التفسير الكبير" (9/29).
[6069]:انظر المصدر السابق.
[6070]:ينظر: الإملاء 1/154.
[6071]:تقدم برقم 1567.
[6072]:انظر تفسير القرطبي (4/152).
[6073]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (7/291) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (2/152) وزاد نسبته لابن المنذر عن ابن عباس وأخرجه الطبري (7/291) عن الربيع بلفظ: جبنتم عن عدوكم وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (2/152) وزاد نسبته لأبي حاتم.
[6074]:ذكره الرازي في تفسيره (1/362).
[6075]:ينظر: الإملاء 1/154.
[6076]:في أ: لقيام.