إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{وَلَقَدۡ صَدَقَكُمُ ٱللَّهُ وَعۡدَهُۥٓ إِذۡ تَحُسُّونَهُم بِإِذۡنِهِۦۖ حَتَّىٰٓ إِذَا فَشِلۡتُمۡ وَتَنَٰزَعۡتُمۡ فِي ٱلۡأَمۡرِ وَعَصَيۡتُم مِّنۢ بَعۡدِ مَآ أَرَىٰكُم مَّا تُحِبُّونَۚ مِنكُم مَّن يُرِيدُ ٱلدُّنۡيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ ٱلۡأٓخِرَةَۚ ثُمَّ صَرَفَكُمۡ عَنۡهُمۡ لِيَبۡتَلِيَكُمۡۖ وَلَقَدۡ عَفَا عَنكُمۡۗ وَٱللَّهُ ذُو فَضۡلٍ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (152)

{ وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ } نُصب على أنه مفعولٌ ثانٍ لصَدَق صريحاً ، وقيل : بنزع الجارِّ أي في وعده نزلت حين قال ناسٌ من المؤمنين عند رجوعِهم إلى المدينة : من أين أصابنا هذا وقد وعدنا الله تعالى بالنصر ؟ وهو ما وعدهم على لسان نبيِّه عليه السلامُ من النصر حيث قال للرماة : «لا تبرَحوا مكانَكم فلن نزال غالبين ما ثبتُّم مكانَكم » وفي رواية أخرى : «لا تبرَحوا عن هذا المكانِ فإنا لا نزال غالبين ما دمتم في هذا المكان » وقد كان كذلك فإن المشركين لما أقبلوا جعل الرماةُ يرشُقونهم والباقون يضرِبونهم بالسيوف حتى انهزموا والمسلمون على آثارهم يقتُلونهم قتلاً ذريعاً وذلك قوله تعالى : { إِذْ تَحُسُّونَهُمْ } أي تقتُلونهم قتلاً كثيراً فاشياً ، من حسَّه إذا أبطل حِسَّه وهو ظرفٌ لصدقكم وقوله تعالى : { بِإِذْنِهِ } أي بتيسيره وتوفيقِه لتحقيق أنّ قتلَهم بما وعدهم الله تعالى بالنصر ، وقيل : هو ما وعدهم بقوله تعالى : { إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا } [ آل عمران ، الآية 125 ] الآية ، وقد مر تحقيقُ أن ذلك كان يومَ بدر كيف لا والموعودُ بما ذكر إمدادُه عز وجل بإنزال الملائكةِ عليهم السلام ، وتقييدُ صدقِ وعدِه تعالى بوقت قتلِهم بإذنه تعالى صريحٌ في أن الموعودَ هو النصرُ المعنويُّ والتيسيرُ ، لا الإمدادُ بالملائكة ، وقيل : هو ما وعده تعالى بقوله : { سَنُلْقِي } [ آل عمران ، الآية : 151 ] الخ ، وأنت خبيرٌ بأن إلقاءَ الرعبِ كان عند تركِهم القتالَ ورجوعِهم من غير سبب أو بعد ذلك في الطريق على اختلاف [ في ] الروايتين وأياً ما كان فلا سبيل إلى كونه مُغياً بقوله تعالى : { حتى إِذَا فَشِلْتُمْ } أي جبُنتم وضعُف رأيُكم أو مِلتم إلى الغنيمة ، فإن الحرصَ من ضعف القلب { وتنازعتم في الأمر } فقال بعضُ الرماةِ حين انهزم المشركون وولَّوْا هاربين والمسلمون على أعقابهم قتلاً وضرباً : فما موقفُنا هاهنا بعد هذا ؟ وقال أميرُهم عبدُ اللَّه بنُ جبيرٍ رضي الله عنه : لا نخالف أمرَ الرسولِ صلى الله عليه وسلم فثبت مكانه في نفر دون العشرةِ من أصحابه ونفَرَ الباقون للنهب وذلك قوله تعالى : { وَعَصَيْتُمْ من بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ } أي من الظفر والغنيمةِ وانهزامِ العدوِّ ، فلما رأى المشركون ذلك حَملوا عليهم من قبل الشِّعْبِ وقتلوا أميرَ الرماةِ ومن معه من أصحابه حسبما فُصِّل في تفسير قولِه تعالى : { أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم } [ آل عمران ، الآية 144 ] وجوابُ إذا محذوفٌ وهو منعُكم نصْرَه ، وقيل : امتَحَنكم ، ويردُّه جعلُ الابتلاءِ غايةً للصَّرْف المترتِّبِ على منع النصرِ ، وقيل : هو : انقسمتم إلى قسمين كما ينبئ عنه قوله تعالى : { مِنكُم من يُرِيدُ الدُّنْيَا } وهم الذين تركوا المركزَ وأقبلوا على النهب { وَمِنكُم من يُرِيدُ الآخرة } وهم الذين ثبتوا مكانَهم حتى نالوا شرفَ الشهادة . هذا على تقدير كونِ إذا شرطيةً وحتى ابتدائيةً داخلةً على الجملة الشرطيةِ ، وقيل : { إِذَا } اسمٌ كما في قولهم : إذا يقوم زيد يقوم عمرو ، و { حتى } حرفُ جرٍ بمعنى إلى المتعلقة بقوله تعالى : { صَدَقَكُمُ } [ آل عمران ، الآية : 152 ] باعتبار تضمُّنِه لمعنى النصرِ كأنه قيل : لقد نصركم الله إلى وقت فشلِكم وتنازُعِكم الخ ، وعلى هذا فقولُه تعالى : { ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ } حتى حالت الحالُ ودالت الدولةُ ، وفيه من اللطف بالمسلمين ما لا يخفي ، { لِيَبْتَلِيَكُمْ } أي يعاملَكم معاملةَ من يمتحنكم بالمصائب ليَظهرَ ثباتُكم على الإيمان عندها { وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ } تفضّلاً ، ولِمَا علم من ندمكم على المخالفة { والله ذُو فَضْلٍ عَلَى المؤمنين } تذييلٌ مقرِّرٌ لمضمون ما قبله ومؤْذِنٌ بأن ذلك العفوَ بطريق التفضّلِ والإحسانِ لا بطريق الوجوبِ عليه ، أي شأنُه أن يتفضلَ عليهم بالعفو أو هو متفضلٌ عليهم في جميع الأحوالِ أديل لهم أو أُديل عليهم ، إذ الابتلاءُ أيضاً رحمةٌ ، والتنكيرُ للتفخيم ، والمرادُ بالمؤمنين إما المخاطبون ، والإظهارُ في موقع الإضمارِ للتشريفِ والإشعارِ بعلة الحُكم ، وإما الجنس وهم داخلون في الحكم دخولاً أولياً .