الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{وَلَقَدۡ صَدَقَكُمُ ٱللَّهُ وَعۡدَهُۥٓ إِذۡ تَحُسُّونَهُم بِإِذۡنِهِۦۖ حَتَّىٰٓ إِذَا فَشِلۡتُمۡ وَتَنَٰزَعۡتُمۡ فِي ٱلۡأَمۡرِ وَعَصَيۡتُم مِّنۢ بَعۡدِ مَآ أَرَىٰكُم مَّا تُحِبُّونَۚ مِنكُم مَّن يُرِيدُ ٱلدُّنۡيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ ٱلۡأٓخِرَةَۚ ثُمَّ صَرَفَكُمۡ عَنۡهُمۡ لِيَبۡتَلِيَكُمۡۖ وَلَقَدۡ عَفَا عَنكُمۡۗ وَٱللَّهُ ذُو فَضۡلٍ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (152)

وقوله سبحانه : { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ }[ آل عمران :152 ] ، جاء الخطَابُ لجميعِ المؤمنينَ ، وإن كانَتِ الأمور التي عاتبهم سبحانه علَيْها ، لم يقَعْ فيها جميعُهم ، ولذلك وجوهٌ من الفصاحةِ ، منْها : وعْظ الجميع ، وزجْرُه ، إذ مَنْ لم يفعلْ مُعَدٌّ أنْ يفعل ، إن لم يزجر ، ومنها : السَّتْر والإبقاء على من فعل ، وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم قد وَعَدَ المؤمِنِينَ النَّصْرَ يَومَئِذٍ على خبر اللَّه ، إنْ صَبَرُوا وجَدُّوا ، فصَدَقَهُم اللَّه وعْدَه ، وذلك أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم صَافَّ المشركين يومئذ ، ورتَّب الرماة ، على ما قَدْ ذكَرْناه قَبْلَ هذا ، واشتعلت نارُ الحَرْب ، وأبلى حمزةُ بنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ ، وأَبُو دُجَانَةَ ، وعليٌّ ، وعَاصِمُ بْنُ أَبِي الأَفْلَحِ ، وغيرُهم ، وانهزم المشركُونَ ، وقُتِلَ منهم اثنان وعشْرُونَ رجُلاً ، فهذا معنى قوله عز وجل : { إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ }[ آل عمران :152 ] ، والحَسُّ : القتل الذَّريعُ ، يقال : حَسَّهُمْ إذا استأصلهم قتْلاً ، وحَسَّ البَرْدُ النَّباتَ .

وقوله سبحانه : { حتى إِذَا فَشِلْتُمْ } ، يحتملُ أنْ تكونَ ( حتى ) غايةً ، كأنه قال : إلى أنْ فشلتم ، والأظهر الأقوى أنَّ ( إذا ) على بابها تحتاجُ إلى الجوابِ ، ومَذْهَبُ الخَلِيلِ ، وسِيبَوَيْهِ ، وفُرْسَانِ الصِّنَاعة ، أنَّ الجوابَ محذوفٌ يدلُّ عليه المعنى ، تقديرُهُ : انهزمتم ، ونحوه ، والفَشَل : استشعار العَجْزِ ، وترْكُ الجِدِّ ، والتَّنَازُعُ هو الَّذي وقَعَ بَيْنَ الرماةِ ، { وَعَصَيْتُمْ } : عبارةٌ عن ذَهَابِ مَنْ ذَهَبَ مِنَ الرماة ، وتأمَّل ( رحمك اللَّه ) ما يوجبه الركُونُ إلى الدنيا ، وما يَنْشَأُ عنها من الضَّرَرِ ، وإذا كان مَثَلُ هؤلاءِ السَّادة على رِفْعَتِهِمْ وعظيمِ منزلتهم ، حَصَلَ لهم بسببها مَا حَصَلَ ، مِنَ الفَشَل والهزيمةِ ، فكيف بأمثالنا ، وقد حذَّرَ اللَّه عز وجلَّ ونبيُّه عليه السلام من الدُّنْيا وآفاتها ، بما لا يخفى على ذي لُبٍّ ، وقد ذكرنا في هذا «المُخْتَصَرِ » جملةً كافيةً لمَنْ وفَّقه اللَّه ، وشَرَح صدْره ، وقد خرَّج البَغَوِيُّ في «المُسْنَدِ المُنْتَخَبِ » له ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : ( لاَ تُفْتَحُ الدُّنْيَا على أَحَدٍ إلاَّ أَلْقَتْ بَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ ، وَالبَغْضَاءَ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ ) انتهى من «الكوكب الدري » .

وقال -عليه السلام- للأنْصَارِ : لما تعرَّضوا له ، إذْ سمعوا بقُدُوم أبي عُبَيْدةِ بمالِ البَحْرَيْنِ : ( أَبْشِرُوا وَأَمِّلُوا مَا يَسُرُّكُمْ ، فَوَاللَّهِ ، مَا الفَقْرَ أخشى عَلَيْكُم ، وَلَكِنِّي أخشى أَنْ تُبْسَطَ الدُّنْيَا عَلَيْكُمْ ، كَمَا بُسِطَتْ على مَنْ قَبْلَكُمْ ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا ، فَتُهْلِكَكُم كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ ) ، أخرجه البخاريُّ ، ومسلمٌ والترمذيُّ ، واللفظ له ، وقال : هذا حديثٌ صحيحٌ ، انتهى .

واعلم ( رحمك اللَّه ) أنَّ تيسير أسْبَابِ الدُّنْيا مع إعراضك عن أمر آخرتك ، ليس ذلك من علاماتِ الفَلاَحِ ، وقد روى ابنُ المُبَارك في «رقائقه » ، قال : أخبرنا ابْنُ لَهِيعَةَ ، قال : حدَّثني سعيدُ بنُ أَبِي سَعِيدٍ ، أنَّ رجُلاً قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، كَيْفَ لِي أَنْ أَعْلَمَ كَيْفَ أَنَا ؟ قَالَ : ( إذَا رَأَيْتَ كُلَّمَا طَلَبْتَ شَيْئاً مِنْ أَمْرِ الآخِرَةِ ، وابتغيته ، يُسِّرَ لَكَ ، وَإذَا أَرَدتَّ شَيْئاً مِنَ الدُّنْيَا ، وابتغيته ، عُسِّرَ عَلَيْكَ ، فَأَنْتَ على حَالٍ حَسَنَةٍ ، وَإذَا رَأَيْتَ كُلَّمَا طَلَبْتَ شَيْئاً مِنْ أَمْرِ الآخِرَةِ ، وابتغيته ، عُسِّرَ عَلَيْكَ ، وَإذَا أَرَدتَّ شَيْئاً مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا ، وابتغيته ، يُسِّرَ لَكَ ، فَأَنْتَ على حَالٍ قَبِيحَةٍ ) انتهى . فتأمَّله راشداً .

وقولَه : { مِّن بَعْدِ مَا أراكم مَّا تُحِبُّونَ } ، يعني : هزيمةَ المشركين ، قال الزُّبَيْر : واللَّه ، لَقَدْ رأيتُنِي أنْظُرُ إلى خَدَمِ هنْدِ بنْتِ عُتْبَةَ ، وصواحِبِهَا مشَمِّراتٍ هَوَارِبَ ، ما دُونَ أخْذِهِنَّ قليلٌ ، ولا كثيرٌ ، إذ مالَتِ الرماةُ إلى العَسْكَر حين كَشَفْنَا القَوْمَ عَنه ، يريدون النَّهْبَ ، وخَلَّوْا ظهورَنَا للخَيْلِ ، فَأُوتِينَا مِنْ أَدْبَارنا ، وصَرَخَ صَارِخٌ أَلاَ إنَّ محمَّداً قد قُتِلَ ، وانكفأ علينا القومُ .

وقوله سبحانه : { مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا } ، يعني بهم الذين حَرَصُوا على الغنيمة ، وكان المالُ همَّهم ، قاله ابنُ عَبَّاسٍ ، وسائرُ المفسِّرين ، وقال عبدُ اللَّهِ بْنُ مسْعود : ما كنتُ أرى أنَّ أحداً مِنْ أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم يريدُ الدنيا ، حتى نَزَلَ فينا يَوْمَ أُحُدٍ : { مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا } .

وقوله سبحانه : { وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخرة } إخبارٌ عن ثبوتِ مَنْ ثَبَتَ من الرُّماة ، مع عبد اللَّه بن جُبَيْر ، امتثالا للأمْر ، حتى قُتِلُوا ، ويدخلُ في هذا أنَسُ بْنُ النَّضْر ، وكلُّ من جَدَّ ، ولم يَضْطَرِبْ من المؤمنين .