قوله تعالى : { لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين } وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أرى في المنام بالمدينة قبل أن يخرج إلى الحديبية أنه يدخل هو وأصحابه المسجد الحرام آمنين ، ويحلقون رؤوسهم ويقصرون ، فأخبر بذلك أصحابه ، ففرحوا حسبوا أنهم داخلوا مكة عامهم ذلك ، فلما انصرفوا ولم يدخلوا شق عليهم ذلك ، فأنزل الله هذه الآية .
وروي عن مجمع بن حارثة الأنصاري : " قال شهدنا الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما انصرفنا عنها إذا الناس يهزون الأباعر ، فقال بعضهم : ما بال الناس ؟ فقالوا : أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال فخرجنا نوجف ، فوجدنا النبي صلى الله عليه وسلم واقفاً على راحلته عند كراع الغميم ، فلما اجتمع إليه الناس قرأ : { إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً } فقال عمر : أو فتح هو يا رسول الله ؟ قال : نعم والذي نفسي بيده " . ففيه دليل على أن المراد بالفتح صلح الحديبية ، وتحقق الرؤيا كان في العام المقبل ، فقال جل ذكره : { لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق } أخبر أن الرؤية التي أراها إياها في مخرجه إلى الحديبية أنه يدخل هو وأصحابه المسجد الحرام صدق وحق . قوله : { لتدخلن } يعني : وقال : لتدخلن من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه حكاية عن رؤياه ، فأخبر الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ذلك ، وإنما استثنى مع علمه بدخولها بإخبار الله تعالى ، تأدباً بآداب الله ، حيث قال له : { ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا * إلا أن يشاء الله } ( الكهف-23 ) . وقال أبو عبيدة : " إن " بمعنى " إذ " ، مجازه : إذ شاء الله ، كقوله : { إن كنتم مؤمنين } . وقال الحسين بن الفضل : يجوز أن يكون الاستثناء من الدخول ، لأن بين الرؤيا وتصديقها سنة ، ومات في تلك السنة ناس فمجاز الآية : لتدخلن المسجد الحرام كلكم إن شاء الله . وقيل الاستثناء واقع على الأمر لا على الدخول ، لأن الدخول لم يكن فيه شك ، كقول النبي صلى الله عليه وسلم عند دخول المقبرة : " وإنا إن شاء الله بكم لاحقون " ، فالاستثناء راجع إلى اللحوق بأهل لا إله إلا الله لا إلى الموت . { محلقين رؤوسكم } كلها ، { ومقصرين } بأخذ بعض شعورها ، { لا تخافون فعلم ما لم تعلموا } أن الصلاح كان في الصلح وتأخير الدخول ، وهو قوله تعالى : { ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات } ( الفتح-25 ) . { فجعل من دون ذلك } أي من قبل دخولكم المسجد الحرام ، { فتحاً قريباً } وهو صلح الحديبية عند الأكثرين ، وقيل : فتح خيبر .
روي في تفسير هذه الآية ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في منامه عند خروجه إلى العمرة أنه يطوف بالبيت هو وأصحابه ، بعضهم محلقون وبعضهم مقصرون . وقال مجاهد : أرى ذلك بالحديبية ، فأخبر الناس بهذه { الرؤيا } ، ووثق الجميع بأن ذلك يكون في وجهتهم تلك ، وقد كان سبق في علم الله تعالى أن ذلك يكون . لكن ليس في تلك الجهة . وروي أن رؤياه إنما كانت أن ملكاً جاءه فقال له : { لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين } ، وإنه بهذا أعلم الناس فلما قضى الله في الحديبية بأمر الصلح ، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصدر{[10428]} ، وقال المنافقون : وأين الرؤيا ؟ ووقع في نفوس المسلمين شيء من ذلك ، فأنزل الله تعالى : { لقد صدق الله ورسوله الرؤيا بالحق } . و : { صدق } هذه تتعدى إلى مفعولين ، تقول صدقت زيداً الحديث . واللام في : { لتدخلن } لام القسم الذي تقتضيه { صدق } لأنها من قبيل تبين وتحقق ، ونحوها مما يعطي القسم .
واختلف الناس في معنى الاستثناء في هذه الآية ، فقال بعض المتأولين هو استثناء من الملك المخبر للنبي عليه السلام في نومه ، فذكر الله تعالى مقالته كما وقعت ، وقال آخرون هو أخذ من الله تعالى عباده بأدبه في استعماله في كل فعل يوجب وقوعه ، كان ذلك مما يكون ولا بد ، أو كان مما قد يكون وقد لا يكون ، وقال بعض العلماء : إنما استثنى من حيث كل واحد من الناس متى رد هذا الوعد إلى نفسه أمكن أن يتم الوعد فيه وأن لا يتم ، إذ قد يموت الإنسان أو يمرض أو يغيب ، وكل واحد في ذاته محتاج إلى الاستثناء ، فلذلك استثنى عز وجل في الجملة ، إذ فيهم ولا بد من يموت أو يمرض . وقال آخرون : استثنى لأجل قوله : { آمنين } لأجل إعلامه بالدخول ، فكأن الاستثناء مؤخر عن موضعه ، ولا فرق بين الاستثناء من أجل الأمن أو من أجل الدخول ، لأن الله تعالى قد أخبر بهما ووقت الثقة بالأمرين ، فالاستثناء من أيهما كان فهو استثناء من واجب . وقال قوم : { إن } بمعنى إذ فكأنه قال : إذ شاء الله .
قال القاضي أبو محمد : وهذا حسن في معناه ، ولكن كون { إن } بمعنى إذ غير موجود في لسان العرب ، وللناس بعد في هذه الاستثناء أقوال مخلطة غير هذه ، اختصرت ذكرها ، لأنها لا طائل فيها .
وقرأ ابن مسعود : «إن شاء الله لا تخافون » بدل { آمنين } .
ولما نزلت هذه الآية ، علم المسلمون أن تلك الرؤيا فيما يستأنفون من الزمن ، واطمأنت قلوبهم بذلك وسكنت ، وخرجت في العام المقبل ، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة في ذي القعدة سنة سبع ، ودخلها ثلاثة أيام هو وأصحابه ، وصدقت رؤياه صلى الله عليه وسلم .
وقوله : { فعلم ما لم تعلموا } يريد ما قدره من ظهور الإسلام في تلك المدة ودخول الناس فيه ، وما كان أيضاً بمكة من المؤمنين دفع الله تعالى{[10429]} بهم . وقوله تعالى : { من دون ذلك } ، أي من قبل ذلك وفيما يدنو إليكم .
واختلف الناس في الفتح القريب ، فقال كثير من الصحابة : هو بيعة الرضوان وروي عن مجاهد وابن إسحاق . أنه الصلح بالحديبية . وقد روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم : أو فتح هو يا رسول الله ؟ قال : «نعم » وقال ابن زيد : الفتح القريب : خيبر حسبما تقدم من ذكر انصراف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فتحها . وقال قوم : الفتح القريب : فتح مكة ، وهذا ضعيف ، لأن فتح مكة لم يكن من دون دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكة ، بل كان بعد ذلك بعام ، لأن الفتح كان سنة ثمان من الهجرة ويحسن أن يكون الفتح هنا اسم جنس يعم كل ما وقع مما للنبي صلى الله عليه وسلم فيه ظهور وفتح عليه . وقد حكى مكي في ترتيب أعوام هذه الأخبار عن قطرب قولاً خطأ جعل فيه الفتح سنة عشر ، وجعل حج أبي بكر قبل الفتح ، وذلك كله تخليط وخوض فيما لم يتقنه معرفة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.