فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{لَّقَدۡ صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ ٱلرُّءۡيَا بِٱلۡحَقِّۖ لَتَدۡخُلُنَّ ٱلۡمَسۡجِدَ ٱلۡحَرَامَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ ءَامِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمۡ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَۖ فَعَلِمَ مَا لَمۡ تَعۡلَمُواْ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَٰلِكَ فَتۡحٗا قَرِيبًا} (27)

لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريبا27 هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا 28 محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطئه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما 29

{ لقد صدق الله رسوله الرؤيا } أي : جعل رؤياه صادقة محققة ولم يجعلها أضغاث أحلام وإن كان تفسيرها لم يقع إلا بعد ذلك في عمرة القضاء قال الواحدي ، قال المفسرون : إن الله سبحانه أرى نبيه صلى الله عليه وسلم في المدينة قبل أن يخرج إلى الحديبية كأنه هو وأصحابه حلقوا وقصروا ، فأخبر بذلك أصحابه ، ففرحوا وحسبوا أنهم سيدخلون مكة عامهم ذلك ، فلما رجعوا من الحديبية ولم يدخلوا مكة قال المنافقون والله ما حلقنا ولا قصرنا ولا دخلنا المسجد الحرام فأنزل الله هذه الآية ، وقيل إن الرؤيا كنت بالحديبية {[1514]} .

{ بالحق } متعلق بصدق أي صدقة فيما رأى وفي كونه وحصر له صدقا متلبسا بالحق ، أي بالحكمة البالغة وذلك ما فيه من الابتلاء والتمييز بين المؤمن الخالص وبين من في قلبه مرض ، ويجوز أن يكون بالحق قسما إما بالحق الذي هو نقيض الباطل ، أو بالحق الذي هو من أسمائه سبحانه وجوابه { لتدخلن المسجد الحرام } في العام القابل ، وعلى الأول هو جواب قسم محذوف { إن شاء الله } تعليق للعدة بالمشيئة لتعليم العباد لما يجب أن يقولوه ، كما في قوله : { ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله } قال ثعلب : إن الله استثنى فيما يعلم ليستثني الخلق فيما لا يعلمون ، وقيل : كأن الله سبحانه علم أنه يموت بعض هؤلاء الذين كانوا معه في الحديبية ، فوقع الاستثناء لهذا المعنى ، قاله الحسن بن الفضل ، وقيل : معنى إن شاء الله كما شاء الله وقال أبو عبيدة : إن بمعنى إذ يعني إذ شاء الله حيث أرى رسوله ذلك .

{ آمنين } حال من فاعل لتدخلن والشرط معترض ، والمعنى : آمنين في حال الدخول ، لا تخافون عدوكم أن يخرجكم في المستقبل { محلقين رؤوسكم ومقصرين } أي محلقا بعضكم جميع الشعور ، ومقصرا بعضكم ، والحلق والتقصير خاص بالرجال ، والحلق أفضل من التقصير ، كما يدل على ذلك الحديث الصحيح في استغفاره صلى الله عليه وسلم للمحلقين في المرة الأولى والثانية ، والقائل يقول له : وللمقصرين ، فقال في الثالثة : وللمقصرين ، وقد ورد في الدعاء للمحلقين والمقصرين في البخاري ومسلم وغيرهما أحاديث منها ما قدمنا الإشارة إليه وهو من حديث ابن عمر ، وفيهما من حديث أبي هريرة أيضا{[1515]} .

{ لا تخافون } مستأنف ، وفيه زيادة تأكيد لما قد فهم من قوله آمنين فلا تكرار .

{ فعلم ما لم تعلموا } معطوف على صدق ، أي صدق رسوله الرؤيا ، فعلم ما لم تعلموا من المصلحة في الصلح ، لما في دخولكم في عام الحديبية من الضرر على المستضعفين من المؤمنين { فجعل من دون ذلك } أي دخولكم مكة كما أرى رسوله { فتحا قريبا } ليقويكم به ، فإنه كان موجبا لإسلام كثير ، قال أكثر المفسرين : هو صلح الحديبية ، وقل ابن زيد والضحاك : فتتح خيبر ، وتحققت الرؤيا في العام القابل ، وقال الزهري : لا فتح في الإسلام كان أعظم من صلح الحديبية ، ولقد دخل في تلك السنين في الإسلام مثل من كان قد دخل فيه قبل ذلك ، بل أكثر ، فإن المسلمين كانوا في سنة ست وهي سنة الحديبية ألفا وأربعمائة وكانوا في سنة ثمان عشرة آلاف وقيل : هو فتح مكة .


[1514]:زاد المسير 443.
[1515]:زاد المسير /444.