محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{لَّقَدۡ صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ ٱلرُّءۡيَا بِٱلۡحَقِّۖ لَتَدۡخُلُنَّ ٱلۡمَسۡجِدَ ٱلۡحَرَامَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ ءَامِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمۡ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَۖ فَعَلِمَ مَا لَمۡ تَعۡلَمُواْ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَٰلِكَ فَتۡحٗا قَرِيبًا} (27)

{ لقد صدق الله رسوله الرءيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريبا 27 } .

{ لقد صدق الله رسوله الرءيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون } .

قال ابن جرير :{[6649]} أي لقد صدق الله رسوله محمدا رؤياه التي أراها إياه أنه يدخل هو وأصحابه بيت الله الحرام آمنين ، لا يخافون أهل الشرك ، مقصرا بعضهم رأسه ، ومحلقا بعضهم . ثم روى عن مجاهد أنه قال : أُرِيَ بالحديبية أنه يدخل مكة وأصحابه محلقين ، فقال أصحابه حين نحر بالحديبية : أين رؤيا محمد صلى الله عليه وسلم ؟ وعن ابن زيد قال : قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : إني قد رأيت أنكم ستدخلون المسجد الحرام محلقين رؤوسكم مقصرين ، فلما نزل بالحديبية ، ولم يدخل ذلك العام ، طعن المنافقون في ذلك فقالوا : أين رؤياه ؟ فقال الله { لقد صدق الله رسوله . . . } الآية ، إني لم أُرِهِ يدخلها هذا العام ، وليكونن ذلك . و { الرءيا } منصوب بنزع الخافض ، أي صدقه في رؤياه . أي حقق صدقها عنده ، كما هو عادة الأنبياء عليهم السلام ، ولم يجعلها أضغاث أحلام . أو منصوب على أنه مفعول ثان ، وهو ما قاله الكرمانيّ ، وعبارته : ( كذب ) يتعدى إلى مفعولين ، يقال : كذنبي الحديث ، وكذا { صدق } كما في الآية . وهو غريب لتعدي المثقل لواحد والمخفف لمفعولين .

وقوله { بالحق } حال من الرؤيا . أي متلبسة بالحق ، ليست من قبيل أضغات الأحلام .

وقوله : { لتدخلن } جواب قسم محذوف . أي : والله ! لتدخلن .

/وقوله : { إن شاء الله } تعليق للعدة بالمشيئة ، لتعليم العباد . أو للإشعار بأن بعضهم لا يدخل ، فهو في معنى : ليدخلنّه من شاء الله دخوله منكم . أو حكاية لما قاله ملك الرؤيا ، أو النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه .

وقوله : { محلقين } حال مقدرة ، لأن الدخول في حال الإحرام ، لا في حال الحلق والتقصير . وفي الكلام تقدير ، أو هو من نسبة ما للجزء إلى الكل . والمعنى : محلقا بعضكم ، ومقصرا آخرون . والقرينة عليه : أنه لا يجتمع الحلق والتقصير ، فلا بد من نسبة كل منهما لبعض منهم .

وثبت في ( الصحيح ) {[6650]} أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( رحم الله المحلقين ! قالوا : والمقصرين يا رسول الله ؟ قال : رحم الله المحلقين ! قالوا : والمقصرين يا رسول الله ! قال : رحم الله المحلقين قالوا والمقصرين يا رسول الله قال : والمقصرين ) !

وقوله تعالى : { لا تخافون } حال مؤكدة لقوله : { آمنين } أو مؤسسة ، لأن اسم الفاعل للحال والمضارع للاستقبال ، فيكون أثبت لهم الأمن حال الدخول . ونفى عنهم الخوف حال استقرارهم في البلد ، لا يخافون من أحد .

قال الحافظ ابن كثير : وهذا كان في عمرة القضاء ، في ذي القعدة سنة سبع ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع من الحديبية في ذي القعدة ، رجع إلى المدينة ، فأقام بها ذا الحجة والمحرم ، وخرج في صفر إلى خيبر ، ففتحها الله عليه . بعضها عنوة ، وبعضها صلحا ، وهي إقليم عظيم ، كثير النخل والزروع ، فاستخدم من فيها من اليهود عليها ، على الشطر ، وقسمها بين أهل الحديبية وحدهم ، ولم يشهدها أحد غيرهم ، إلا الذين قدموا من الحبشة : جعفر بن أبي طالب وأصحابه ، وأبو موسى الأشعريّ وأصحابه رضي الله عنهم ، ولم يغب منهم أحد . قال ابن زيد : إلا أبا دجانة سماك بن خرشة ، كما هو مقرر في موضعه . ثم رجع المدينة ، فلما كان في ذي القعدة من سنة سبع ، خرج صلى الله عليه وسلم إلى مكة معتمرا ، هو وأهل الحديبية ، فأحرم من ذي الحليفة ، وساق معه الهدي . قيل : كان ستين بدنة . فلبى ، وسار وأصحابه يلبون ، قريبا من مرّ الظهران ، بعث محمد بن سلمة بالخيل والسلاح أمامه ، فلما رآه المشركون رعبوا رعبا شديدا ، وظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزوهم ، وأنه قد نكث العهد الذي بينهم وبينه ، من وضع القتال عشر سنين ، فذهبوا فأخبروا أهل مكة . فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل بمر الظهران ، حيث ينظر إلى أنصاب الحرم ، بعث السلاح من القسيّ والنبل والرماح إلى بطن يأجج ، وسار بالسيوف إلى مكة مغمدة في قربها ، كما شارطهم عليه . فلما كان في أثناء الطريق ، بعثت قريش مكرز بن حفص فقال : يا محمد ! ما عرفناك تنقض العهد ! فقال صلى الله عليه وسلم : ( وما ذاك ) ؟ قال : دخلت علينا بالسلاح ، القسيّ والرماح ! فقال صلى الله عليه وسلم : ( لم يكن ذلك ، وقد بعثنا به إلى يأجج ) ؟ فقال : بهذا عرفناك ، بالبرّ والوفاء . وخرجت رؤوس الكفار من مكة ، لئلا ينظروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى أصحابه رضي الله عنه ، غيظا وحنقا . وأما بقية أهل مكة من الرجال والنساء والولدان فجلسوا في الطرق وعلى البيوت ، ينظرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فدخلها عليه الصلاة والسلام ، وبين يديه أصحابه يلبون ، والهدي قد بعثه إلى ذي طوى ، وهو راكب ناقته القصواء ، التي كان راكبها يوم الحديبية ، وعبد الله ابن رواحة الأنصاريّ آخذ بزمام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو يقول :

باسم الذي لا دين إلا دينه *** باسم الذي محمد رسوله

خلوا بني الكفار عن سبيله *** اليوم نضربكم على تأويله

كما ضربناكم على تنزيله *** ضربا يُزيل الهامَ عن مقيله

ويذهل الخليل عن خليله *** قد أنزل الرحمن في تنزيله

في صحف تتلى على رسوله*** بأن خير القتل في سبيله

يارب ! إني مؤمن بقيله

/ وروى الإمام أحمد {[6651]} من طريق أبي الطفيل عن ابن عباس : ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل مرّ الظهران في عمرته ، بلغ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قريشا تقول : ما يتباعثون من العَجَف ! فقال أصحابه : لو انتحرنا ، من ظهرنا ، فأكلنا من لحمه ، وحَسَوْنَا من مرقه ، أصبحنا غدا حين ندخل على القوم ، وبنا جمَاَمَةٌ . قال صلى الله عليه وسلم : لا تفعلوا ، ولكن اجمعوا لي من أزوادكم ، فجمعوا له ، وبسطوا الأنطاع ، فأكلوا حتى تولوا ، وحثا كل واحد منهم في جرابه . ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل المسجد ، وقعدت قريش نحو الحجر فاضطبع صلى الله عليه وسلم بردائه ، ثم قال : لا يرى القوم فيكم غميزة ، فاستلم الركن ، ثم دخل حتى إذا تغيب بالركن اليماني مشى إلى الركن الأسود ، فقالت قريش : ما يرضون بالمشي إنهم لينقزون نقز الظباء ! ففعل ذلك ثلاثة أطواف ، فكانت سنّة ) .

قال أبو الطفيل : " فأخبرني ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول صلى الله عليه وسلم فعل ذلك في حجة الوداع " .

وروى أحمد {[6652]} من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكة ، وقد وهَنَتْهُمْ حُمّى يثرب ، ولقوا منها سوءا ، فقال المشركون : إنه يقدم عليكم قوم قد وهنتهم حمى يثرب ، ولقوا منها شرا ، وجلس المشركون من الناحية التي تلي الحجر ، فأطلع الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم على ما قالوا ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرمُلوا الأشواط الثلاثة ، ليرى المشركون جَلَدَهُم . قال ، فرملوا ثلاثة أشواط ، وأمرهم أن يمشوا بين الركنين ، حيث لا يراهم المشركون ) . وفي رواية : ( ولم يمنع النبي صلى الله عليه وسلم أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم ) .

/ وفي ابن كثير زيادة من الأحاديث في هذا الباب ، فيراجعها من أحب الزيادة .

وقوله تعالى : { فعلم ما لم تعلموا } أي من الخيرة والمصلحة في صرفكم عن مكة ، ودخولكم إليها ، عامكم ذلك .

قال ابن جرير :{[6653]} وذلك علمه تعالى ذكره بما بمكة من الرجال والنساء المؤمنين لم يعلمهم المؤمنون ، ولو دخلوها في ذلك العام لوطئوهم بالخيل والرّجل ، فأصابتهم منهم معرة بغير علم ، فردهم الله عن مكة من أجل ذلك . وليدخل في رحمته من يشاء ممن يريد أن يهديه .

{ فجعل من دون ذلك } أي قبل دخولكم الذي وعدتم به في رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم { فتحا قريبا } يعني الصلح الذي جرى بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين مشركي قريش ، أو فتح خيبر ، لتستروح إليه قلوب المؤمنين ، إلى أن يتيسر الفتح الموعود . وإلى الأول ذهب الزهريّ ، قال : يعني صلح الحديبية . وما فتح في الإسلام فتح كان أعظم منه ، إنما كان القتال حيث التقى الناس . فلما كانت الهدنة ، وضعت الحرب وأمن الناس كلهم بعضهم بعضا ، فالتقوا ، فتفاوضوا في الحديث والمنازعة ، فلم يكلّم أحد بالإسلام ، يعقل شيئا ، إلا دخل فيه . فلقد دخل في تينك السنتين في الإسلام مثل من كان في الإسلام قبل ذلك وأكثر . ووافقه مجاهد وإلى الثاني ذهب ابن زيد .

قال ابن جرير : والصواب أن يعم فيقال : جعل الله من دون ذلك كليهما .


[6649]:انظر الصفحة رقم 107 من الجزء السادس والعشرين(طبعة الحلبي الثانية(.
[6650]:أخرجه مسلم في: 15 كتاب الحج، حديث رقم 318(طبعتنا(.
[6651]:أخرجه في المسند بالصفحة رقم 305 من الجزء الأول(طبعة الحلبيّ)والحديث رقم 2783(طبعة المعارف(.
[6652]:أخرجه في المسند بالصفحة رقم 395 من الجزء الأول(طبعة الحلبي)والحديث رقم 2686(طبعة المعارف(.
[6653]:انظر الصفحة رقم 107 من الجزء السادس والعشرين(طبعة الحلبي الثانية(.