اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{لَّقَدۡ صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ ٱلرُّءۡيَا بِٱلۡحَقِّۖ لَتَدۡخُلُنَّ ٱلۡمَسۡجِدَ ٱلۡحَرَامَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ ءَامِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمۡ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَۖ فَعَلِمَ مَا لَمۡ تَعۡلَمُواْ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَٰلِكَ فَتۡحٗا قَرِيبًا} (27)

قوله تعالى : { لَّقَدْ صَدَقَ الله رَسُولَهُ الرؤيا } . «صَدَقَ » يتعدى لاثنين ، ثانيهما بحرف الجر ، يقال صَدَقََكَ فِي كَذَا ، وقد يحذف كهذه الآية{[51841]} ، وقوله : «بِالحَقِّ » فيه أوجه :

أحدها : أن يتعلق ب «صَدَقَ » .

الثاني : أن يكون صفة لمصدر محذوف أي صِدْقاً مُلْتَبِساً بالحَقِّ{[51842]} .

الثالث : أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من الرؤيا ، أي ملتبسةً بالحق{[51843]} .

الرابع : أنه قسم وجوابه : لَتَدْخُلُنَّ فعلى هذا يوقف على الرؤيا ، ويبتدأ بما بعدها .

( قال الزمخشري{[51844]} . وعلى تقديره قَسَماً إما أن يكون قَسَماً بالله فإن الحقَّ من أسمائه ، وإما أن يكون قسماً بالحق الذي هو نقيض الباطل .

وقال ابن الخطيب{[51845]} : ويحتمل وجهين آخرين :

أحدهما : فيه تقديرم وتأخير تقديره صدق الله ( و{[51846]} ) رسوله الرؤيا بالحق الرؤيا أي الرسول الذي هو رسول بالحق .

الثاني : أن يقال تقديره صدق الله ( و{[51847]} ) رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن فيكون تفسيراً للرؤيا بالحق يعني أن الرؤيا هي وَاللهِ لَتَدْخُلُنَّ{[51848]} .

فصل

ذكر المفسرون أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في المنام قبل أن يخرج إلى الحديبية أنه يدخل هو وأصحابه المسجد الحرام ويَحْلِقُونَ رُؤُوسَهُمْ ويُقَصِّرونَ ، فأخبر أصحابه ففرحوا ، وحسبوا أنهم دخلوا مكة عامَهُم ذلك فلما انصرفوا ولم يدخلوا شقَّ عليهم ذلك فأنزل الله هذه الآية .

وروى مُجَمَّعُ بنُ جارية الأنصاريُّ قال : شهدنا الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما انصرفنا عنها إذ النَّاسُ يهزّون الأبَاعِرَ فقال بعضهم : ما بال الناس ؟ قالوا : أُوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .

قال : فخرجنا نزحف فوجدنا النبي صلى الله عليه وسلم واقفاً على راحلته على كرَاع الغَمِيم ، فلما اجتمع الناس قرأ : «إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً » فقال عمر : أَوَ فَتحٌ هو يا رسول الله ؟ قال : نعم والذي نفسي بيده . ففيه دليل على أن المراد من الفتح صلح الحديبية وتحقيق الرؤيا كان في العام المقبل فقال تعالى : { لَّقَدْ صَدَقَ الله رَسُولَهُ الرؤيا بالحق } أراها إياه في مَخْرَجِهِ إلى الحديبية أنه يدخل هو وأصحابه المسجِدَ الحَرَامَ صدق وحق ){[51849]} .

قوله : «لَتَدْخُلُنَّ » جواب قسم مضمر أو لقوله : «بالحَقِّ » على ذلك القول . وقال أبو البقاء : و«لَتَدْخُلُنَّ » تفسير الرؤيا أو مستأنف أي والله{[51850]} لتدخلن ، فجعل كونه جواب قسم قسماً تفسيراً للرؤيا . وهذا لا يصح البتة وهو أن يكون تفسيراً للرؤيا غير جواب القسم ، إلا أن يريد أنه جواب قسم ولكنه يجوز أن يكون هو مع القسم تفسيراً وأن يكون مستأنفاً غير تفسير ، وهو تفسير من عبارته .

قوله : { إِن شَآءَ الله } فيه وجوه :

أحدها : أنه ذكره تعظيماً{[51851]} للعبادة الأدب كقوله تعالى : { وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله } [ الكهف : 23 و24 ] .

الثاني : أن الدخول لما وقع عام الحديبية وكان المؤمنون يريدون الدخول ، ويأبون الصلح قال : لَتَدْخُلُنَّ ولكن لا بجلادتكم ولا بإرادتكم وإنما تَدْخُلُنَّ بمشيئة الله ( تَعَالَى{[51852]} .

الثالث : أن الله تعالى لما قال في الوحي المنزَّل على النبي صلى الله عليه وسلم : «لتدخلن » ذكر أنه بمشيئة الله ) تعالى ، لأن ذلك من الله وَعْدٌ ، ليس عليه دينٌ ولا حقٌّ واجبٌ ؛ لأن من وعد بشيء لا يحققه إلا بمشيئة الله ، وإلا فلا يلزمه به أحدٌ .

( فصل{[51853]}

قال البغوي : معناه وقال لتدخلن . وقال ابن كيسان : لَتْدخُلُنَّ من قوله رسول الله صلى لله عليه وسلم لأصحابه حكاية عن رؤياه ، فأخبر الله عن رسوله أنه قال ذلك ، وإنما استثنى مع علمه بدخولها بإخبار الله تعالى تأدباً بأدب الله تعالى حيث قال : { وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله }{[51854]} [ الكهف : 23 و24 ] . وقال أبو عبيدة : «إِلاَّ » بمعنى إذ مجازه إذْ شَاءَ الله{[51855]} كقوله : { إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } [ البقرة : 278 ] وقال الحُسَيْنُ بن الفضل : يجوز أن يكون الاستثناء من الدخول لأن بين الرؤيا وتصديقها سنة ومات في السنة ناس فمجاز الآية لتدخلن المسجد الحرام كلكم إذْ شَاءَ الله . وقيل : الاستثناء واقع على الأمر لا على الدخول ؛ لأن الدخول لم يكن فيهن شك كقول النبيّ صلى الله عليه وسلم عند دخول القبر : «وإِنَّا إنْ شَاءَ اللهُ بِكُمْ لاَحِقُونَ » فالاستثناء راجع إلى اللحوق لا إلى الموت{[51856]} ) .

قوله : «آمِنينَ » حال من فاعل لَتَدْخُلُنَّ وكَذَا «مُحَلِّقِينَ ومُقَصِّرِينَ » . ويجوز أن تكون «مُحَلِّقِينَ » حالاً من «آمِنينَ » فتكون متداخلةً .

فصل .

قوله : { مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ } إشارة إلى أنكم تتمون الحج من أوله إلى آخره فقوله : «لَتَدْخُلُنَّ » إشارة إلى الأول وقوله : «محلقين » إشارة إلى الآخر .

فإن قيل : محلقين حال الداخلين ، والدَّاخل لا يكون إلا مُحْرِماً والمحرم لا يكون مُحَلّقاً .

( فالجواب : أن قوله : «آمِنينَ » مُتَمَكِّنِين من أن تُتِمُوا الحجَّ مُحَلِّقِينَ ){[51857]} .

قوله : «لاَ تَخَافُونَ » يجوز أن يكون مستأنفاً ، وأن يكون حالاً ثالثةً ، وأن يكون حالاً ( إما ){[51858]} من فاعل لتدخلن ، أو من ضمير «آمنين » أو «محلِّقين أو مقصرين » فإن كانت حالاً من آمنين أو حالاً من فاعل لتدخلن فهي حال للتأكيد وآمنين حال مقارنة وما بعدها حال مقدرة إلا قوله : «لا تخافون » إذا جعل حالاً فإنها مقارنة أيضاً{[51859]} .

فإن قيل : قوله : «لا تخافون » معناه غير خائفين ، وذلك يحصل بقوله تعالى : { آمِنِينَ } فما الفائدة في إعادته ؟

فالجواب : أن فيه كمال الأمن ؛ لأن بعد الحق يخرج الإنسان عن الإحرام فلا يحرم عليه القتال ولكن عند أهل مكة يحرم قتال من أحْرَمَ ومن دَخَلَ الحَرَمَ فقال : تَدْخُلُونَ آمِنِينَ وتَحْلِقُونَ ، ويبقى أَمنُكُمْ بعد إحلالكم من الإحْرَام .

قوله : { فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ } أي ما لم تعلموا من المصلحة ، وأن الصلاح كان في الصلح ، وأن دخولكم في سنتكم سبب لوطء المؤمنين والمؤمنات وهو قوله تعالى : { وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ . . . } [ الفتح : 25 ] الآية .

( فإن قيل{[51860]} : الفاء في قوله : «فعلم » فاء التعقيب ، فقوله «فعلم » عقبت ماذا ؟ .

فالجواب : إن قلنا : إن المراد من «فَعَلِم » وقت الدخول فهو عقيب صَدَقَ ، وإن قلنا : المراد فعلم المصلحة فالمعنى علم الوقوع والشهادة لا علم الغيب . والتقدير : لما حصلت المصلحةُ في العام القابل فعلم ما لم تعلموا من المصلحة المتجددة .

{ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ } أي من قبل دخولهم المسجد الحرام «فَتْحاً قَرِيباً » وهو فتح الحديبية عند الأكْثَرين . وقيل : فتح خيبر . ثم قال : { وَكَانَ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً } [ الفتح : 26 ] وهذا يدفع وَهَمَ حدوثِ علمه في قوله : «فَعَلِمَ » ؛ لأن قوله : { وَكَانَ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً } [ الفتح : 26 ] يفيد سَبْقَ علْمِهِ ){[51861]} .


[51841]:البحر 8/101.
[51842]:البحر 8/101
[51843]:السابق والتبيان 1168.
[51844]:الكشاف 3/549.
[51845]:الرازي 28/104 و105.
[51846]:الواو زيادة على الرازي.
[51847]:كذلك.
[51848]:تفسير الكبير 28/104 و105 بالمعنى.
[51849]:ما بين القوسين كله سقط من نسخة ب وقد ذكر العلامة البغوي في معالم التنزيل 6/213 هذه الآثار والأول العلامة القرطبي في جامعه 16/289 و290 عن قتادة.
[51850]:التبيان 1168.
[51851]:في الرازي: تعليما وليس تعظيما. وكذا في ب تعليما.
[51852]:ما بين القوسين سقط من ب بسبب انتقال النظر.
[51853]:هذا الفصل بأكمله سقط من نسخة ب.
[51854]:نقله عنه إمام قرطبة في جامعه 16/290.
[51855]:لم أجده في المجاز عند تفسير تلك الآية وانظر القرطبي المرجع السابق.
[51856]:نقل كل هذه الآراء القرطبي في مرجعه السابق. أقول: وجعل أن بمعنى إذ فيه بعد؛ لأن إذ في الماضي من الفعل، و "إذا" في المستقبل، وهذا الدخول في المستقبل. فوعدهم دخول المسجد.
[51857]:ما بين القوسين سقط من نسخة ب.
[51858]:سقط من ب كذلك.
[51859]:التبيان 1168 ومعنى الحال المؤكدة أنها تؤكد مضمون الجملة أو عاملها أو صاحبها وهي التي أهملها النحويون أما الحال المقارنة والمقدرة فهي بالنسبة للزمان والمقارنة هي الأغلب عن المقدرة وهي المستقبلة نحو: "هذا بعلي شيخا". انظر الهمع بتصرف 1/245.
[51860]:ما بين القوسين كله سقط من ب.
[51861]:قاله الرازي 28/105 و106.