التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{لَّقَدۡ صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ ٱلرُّءۡيَا بِٱلۡحَقِّۖ لَتَدۡخُلُنَّ ٱلۡمَسۡجِدَ ٱلۡحَرَامَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ ءَامِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمۡ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَۖ فَعَلِمَ مَا لَمۡ تَعۡلَمُواْ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَٰلِكَ فَتۡحٗا قَرِيبًا} (27)

{ لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا ( 27 ) } .

( 1 ) محلقين رؤوسكم : بمعنى حلق شعر الرأس جميعه .

( 2 ) مقصرين : بمعنى تقصير شعر الرأس تقصيرا دون حلقه والحلاقة والتقصير هي هنا لأجل التحلل من الإحرام .

تعليق على الآية

{ لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق . . . }

وخبر زيارة النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين للكعبة .

عبارة الآية واضحة : والخطاب فيها موجه إلى المسلمين استمرار للسابق وهي الحالة هذه جزء من السياق وقد احتوت :

1 تصديقا ربانيا لصحة رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم بأنه زار الكعبة مع أصحابه وكونها حقا .

2 وتوكيدا ربانيا بتحقيق هذه الرؤيا وبدخولهم المسجد الحرام وبقيامهم بطقوس الزيارة آمنين مطمئنين منهم المحلقون ، ومنهم المقصرون دون ما خوف ولا اضطراب .

3 وإشارة إلى ما انتهي إليه سفر الحديبية على سبيل تبرير النهاية : فإذا كان قد انتهى إلى ما انتهى إليه من عدم تحقيق الرؤيا في نفس الرحلة فذلك ناتج عن حكمة الله ولم يعلموها ؛ حيث اقتضت أن يكون بدل الزيارة في هذه الرحلة الفتح القريب الذي يسره لهم .

وفي الآية كما هو ظاهر تأييد للروايات المروية من أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما اعتزم الخروج لزيارة الكعبة استلهاما من رؤيا رآها في منامه ورؤياه حق . وهذا الذي جعل بعض المسلمين يذهلون ، حينما انتهى الموقف بدون تحقيق هذه الزيارة في هذه الرحلة ، وقد استهدفت الآية التصديق والتثبيت مع الوعد الرباني بتحقيق الرؤيا .

ولقد تحقق الوعد الرباني فتمت الزيارة في العام القابل حسب الاتفاق .

وأدى المسلمون مناسكها آمنين مطمئنين ، فكان ذلك معجزة من معجزات القرآن .

ومما روي عن ذلك{[1960]} أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في ذي القعدة من السنة السابعة على رأس ألفين من أصحابه كان معظمهم ممن شهدوا صلح الحديبية وقدموا أمامهم الهدي ، ولم يكن معهم إلا سيوفهم في أغمادها . ولما أقبلوا على مكة خرج أهلها إلى رؤوس الجبال عدا رجال منهم اصطفوا عند دار الندوة لمشاهدة مشهد دخول النبي وأصحابه الذين دخلوا مهللين مكبرين ، وقد هتف النبي بأصحابه ( رحم الله امرأ أراهم اليوم من نفسه قوة ) ثم أقبل النبي وأصحابه نحو الكعبة فطافوا بها وارتقى بلال فوقها فأذن للصلاة وارتجز عبد الله بن رواحة بين يدي رسول الله .

خلو بني الكفار عن سبيله خلوا فكل الخير مع رسوله

نحن ضربناكم على تأويله كما ضربناكم على تنزيله

ضربا يزيل الهام عن مقيله ويذهل الخليل عن خليله

يا رب إني مؤمن بقيله{[1961]} .

فهتف النبي صلى الله عليه وسلم : بل قل ( لا إلاه إلا الله وحده نصر عبده وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده ) فقالها ، فرددها المسلمون ، وقد مكث النبي وأصحابه ثلاثة أيام ، ثم انصرفوا سالمين معافين . وتسمى هذه الزيارة في كتب السيرة بعمرة القضاء{[1962]} .

ويعلل التسمية ابن كثير قائلا : إنها من القضية ؛ لأن مفاوض قريش في صلح الحديبية سمى هذا الصلح قضية ؛ حيث قال للنبي حينما جاء ابنه المسلم لبحث القضية بيني وبينك ، وهذا أول ما أقاضيك عليه . ونحن نرجح مع ذلك أنها أريد بها القيام بالعمرة قضاء عن العمرة التي اعتزموها ثم لم يتموها بسبب ممانعة قريش ، فتأجلت للسنة القابلة حسب اتفاق الحديبية . والله أعلم .

ومما روي كذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب في سفرته هذه ميمونة بنت الحارث أخت زوجة عمه العباس فزوجها له العباس وأصدقها عنه . وأن زعماء قريش أرسلوا إلى النبي بعد انقضاء الأيام الثلاثة المتفق عليها : أن اخرج عنا فقد انقضى أجلك . فقال لهم : وما عليكم لو تركتموني فأعرست بين ظهرانيكم وصنعت لكم طعاما فحضرتموه . فقالوا : لا حاجة لنا في طعامك فاخرج عنا . فخرج وانتظر زوجته الجديدة في سرف حتى تجهزت وخرجت إليه .


[1960]:انظر كتب تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والخازن وسيرة ابن هشام ج 3 ص 425ـ 427 وابن سعد ج 3 ص 167 ـ 169
[1961]:روى هذا الشعر وهتاف النبي صلى الله عليه وسلم ابن هشام ج 3 ص 424 و 425 وابن سعد ج 3 ص 167 و 169، وهناك روايات أخرى للشعر رواها ابن كثير فيها زيادات ولقد قال ابن هشام عن البيت الثالث وما بعده: ليس لعبد الله ابن رواحة، وإنما هو لعمار ابن ياسر، قاله في غير هذا اليوم، واستدل على صحة ذلك قائلا عن الذي يقاتل على التأويل يكون قد اعترف بالتنزيل، ولم يكن مشركو قريش اعترفوا بذلك. والتعليل وجيه على أننا نشك في الشعر كله وفي هتاف النبي صلى الله عليه وسلم، فليس شيء من ذلك واردا في الصحاح. والنبي والمسلمون وصلوا مكة في هذا الظرف بناء على اتفاق الحديبية الذي كان اتفاق صلح أو هدنة. والشعر والهتاف أحرى أن يكونا في ظرف انتصار حربي. ومن المعقول والمحتمل أن يكون ذلك حينما دخل النبي والمسلمون مكة عنوة فاتحين في السنة الثامنة للهجرة على ما سوف يرد شرحه بعد في سياق سورة الحديد، بل لقد روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته بعد أن تم فتح مكة (لا إلاه إلا الله وحده لا شريك له صدق وعد نصره عبده وهزم الأحزاب وحده) وهي الفقرة التي يروي أن النبي أمر عبد الله ابن رواحة أن يقولها بدلا من شعره...
[1962]:ابن هشام ج 3 ص 424