البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{لَّقَدۡ صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ ٱلرُّءۡيَا بِٱلۡحَقِّۖ لَتَدۡخُلُنَّ ٱلۡمَسۡجِدَ ٱلۡحَرَامَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ ءَامِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمۡ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَۖ فَعَلِمَ مَا لَمۡ تَعۡلَمُواْ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَٰلِكَ فَتۡحٗا قَرِيبًا} (27)

رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل خروجه إلي الحديبية .

وقال مجاهد : كانت الرؤيا بالحديبية أنه وأصحابه دخلوا مكة آمنين ، وقد حلقوا وقصروا .

فقص الرؤيا على أصحابه ، ففرحوا واستبشروا وحسبوا أنهم داخلوها في عامهم ، وقالوا : إن رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم حق .

فلما تأخر ذلك ، قال عبد الله أبيّ ، وعبد الله بن نفيل ، ورفاعة بن الحرث : والله ما حلقنا ولا قصرنا ولا رأينا المسجد الحرام .

فنزلت .

وروي أن رؤياه كانت : أن ملكاً جاءه فقال له : { لتدخلنّ } .

الآية ومعنى { صدق الله } : لم يكذبه ، والله تعالى منزه عن الكذب وعن كل قبيح .

وصدق يتعدى إلى اثنين ، الثاني بنفسه وبحرف الجر .

تقول : صدقت زيداً الحديث ، وصدقته في الحديث ؛ وقد عدها بعضهم في أخوات استغفر وأمر .

وقال الزمخشري : فحذف الجار وأوصل الفعل لقوله تعالى : { صدقوا ما عاهدوا الله عليه } انتهى .

فدل كلامه على أن أصله حرف الجر .

وبالحق متعلق بمحذوف ، أي صدقاً ملتبساً بالحق .

{ لتدخلن } : اللام جواب قسم محذوف ، ويبعد قول من جعله جواب بالحق ؛ وبالحق قسم لا تعلق له بصدق ، وتعليقه على المشيئة ، قيل : لأنه حكاية قول الملك للرسول صلى الله عليه وسلم ، قاله ابن كيسان .

وقيل : هذا التعليق تأدب بآداب الله تعالى ، وإن كان الموعود به متحقق الوقوع ، حيث قال تعالى : { ولا تقولنّ لشيء إن فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله } وقال ثعلب : استثنى فيما يعلم ليستثنى الخلق فيما لا يعلمون .

وقال الحسن بن الفضل : كأن الله علم أن بعض الذين كانوا بالحديبية يموت ، فوقع الاستثناء لهذا المعنى .

وقال أبو عبيدة : وقوم إن بمعنى إذ ، كما قيل في قوله : { وإنا إن شاء الله بكم لاحقون } .

وقيل : هو تعليق في قوله : { آمنين } ، لا لأجل إعلامه بالدخول ، فالتعليق مقدم على موضعه .

وهذا القول لا يخرج التعليق عن كونه معلقاً على واجب ، لأن الدخول والأمن أخبر بهما تعالى ، ووقعت الثقة بالأمرين وهما الدخول والأمن الذي هو قيد في الدخول .

و { آمنين } : حال مقارنة للدخول .

ومحلقين ومقصرين : حال مقدرة ؛ ولا تخافون : بيان لكمال الأمن بعد تمام الحج .

ولما نزلت هذه الآية علم المسلمون أنهم يدخلونها فيما يستأنف ، واطمأنت قلوبهم ودخلوها معه عليه الصلاة والسلام في ذي القعدة سنة سبع وذلك ثلاثة أيام هو وأصحابه ، وصدقت رؤياه صلى الله عليه وسلم .

{ فعلم ما لم تعلموا } : أي ما قدره من ظهور الإسلام في تلك المدة ، ودخول الناس فيه ، وما كان أيضاً بمكة من المؤمنين الذين دفع الله بهم ، قاله ابن عطية .

وقال الزمخشري : فعلم ما لم تعلموا من الحكمة والصواب في تأخير فتح مكة إلى العام القابل . انتهى .

ولم يكن فتح مكة في العالم القابل ، إنما كان بعد ذلك بأكثر من عام ، لأن الفتح إنما كان ثمان من الهجرة .

{ فجعل من دون ذلك } : أي من قبل ذلك ، أي من زمان دون ذلك الزمان الذي وعدوا فيه بالدخول .

فتحاً قريباً ، قال كثير من الصحابة : هذا الفتح القريب هو بيعة الرضوان .

وقال مجاهد وابن إسحاق : هو فتح الحديبية .

وقال ابن زيد : خيبر ، وضعف قول من قال إنه فتح مكة ، لأن فتح مكة لم يكن دون دخول الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكة ، بل كان بعد ذلك .