قوله تعالى : { ربنا إني أسكنت من ذريتي } ، أدخل { من } للتبعيض ، ومجاز الآية : أسكنت من ذريتي ولدا ، { بواد غير ذي زرع } ، وهو مكة ، لأن مكة واد بين جبلين ، { عند بيتك المحرم } ، سماه محرما لأنه يحرم عنده ما لا يحرم عند غيره .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا عبد الرزاق ، أنبأنا معمر ، عن أيوب السختياني وكثير بن أبي كثير بن المطلب بن أبي وداعه -يزيد أحدهما على الآخر- عن سعيد بن جبير قال : قال ابن عباس : أول ما اتخذ النساء المنطق من قبل أم إسماعيل ، اتخذت منطقا لتعفي أثرها على سارة ، ثم جاء بها إبراهيم عليه السلام ، وبابنها إسماعيل ، وهي ترضعه ، حتى وضعها عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد ، وليس بمكة يومئذ أحد وليس بها ماء ، فوضعهما هنالك ، ووضع عندها جرابا فيه تمر ، وسقاء فيه ماء ، ثم قفل إبراهيم منطلقا ، فتبعته أم إسماعيل فقالت : يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء ؟ فقالت له ذلك مرارا ، وجعل لا يلتفت إليها ، فقالت له : آلله أمرك بهذا ؟ قال : نعم ، قالت : إذن لا يضيعنا ثم رجعت ، فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ، ثم دعا بهؤلاء الدعوات فرفع يديه ، فقال : " ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع " ، حتى بلغ يشكرون . وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها ، وجعلت تنظر إليه يتلبط أو قال يتلوى ، وانطلقت كراهية أن تنظر إليه ، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها ، فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدا ، فلم تر أحدا ، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها ، ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي ، ثم أتت المروة فقامت عليها ونظرت هل ترى أحدا ، فلم تر أحدا ، ففعلت ذلك سبع مرات . قال ابن عباس : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " فلذلك سعى الناس بينهما " . فلما أشرفت على المروة سمعت صوتا فقالت : صه -تريد نفسها- ثم تسمعت فسمعت أيضا فقالت : قد أسمعت إن كان عندك غواث ، فإذا هي بالملك عند موضع زمزم ، فبحث بعقبه -أو قال بجناحه- حتى ظهر الماء فجعلت تخوضه وتقول بيدها هكذا ، وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعدما تغرف . قال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم : " يرحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم " أو قال : " لو لم تغرف من الماء لكانت زمزم عينا معينا " . قال : فشربت وأرضعت ولدها ، فقال لها الملك : لا تخافوا الضيعة فإن هاهنا بيت الله ، يبنيه هذا الغلام وأبوه ، وإن الله لا يضيع أهله . وكان موضع البيت مرتفعا من الأرض كالرابية ، تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وشماله فكانت كذلك ، حتى مرت بهم رفقة من جرهم - أو أهل بيت من جرهم - مقبلين من طريق كداء ، فنزلوا في أسفل مكة ، فرأوا طائرا عائفا ، فقالوا : إن هذا الطائر ليدور على ماء ، ولعهدنا بهذا الوادي وما فيه من ماء ، فأرسلوا جريا أو جريين فإذا هم بالماء ، فرجعوا فأخبروهم بالماء ، فأقبلوا وأم إسماعيل عند الماء ، فقالوا : أتأذنين لنا أن ننزل عندك ؟ فقالت : نعم ، ولكن لا حق لكم في الماء ، قالوا :نعم . قال ابن عباس : قال النبي صلى الله عليه وسلم : فألقى ذلك أم إسماعيل وهي تحب الأنس ، فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم وشب الغلام وتعلم العربية منهم ، وأنفسهم وأعجبهم حين شب ، فلما أدرك زوجوه امرأة منهم . وماتت أم إسماعيل ، فجاء إبراهيم بعدما تزوج إسماعيل يطالع تركته . . . ذكرنا تلك القصة في سورة البقرة . قوله تعالى : { ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس } ، الأفئدة : جمع الفؤاد { تهوي إليهم } ، تشتاق وتحن إليهم . قال السدي : ومعناه أمل قلوبهم إلى هذا الموضع . قال مجاهد : لو قال أفئدة الناس لزاحمتكم فارس والروم والترك والهند . وقال سعيد بن جبير : لحجت اليهود والنصارى والمجوس ، ولكنه قال : { أفئدة من الناس } وهم المسلمون . { وارزقهم من الثمرات } ، ما رزقت سكان القرى ذوات الماء ، { لعلهم يشكرون* }
{ ربنا إني أسكنت من ذرّيتي } أي بعض ذريتي أو ذرية من ذريتي فحذف المفعول وهم إسماعيل ومن ولد منه فإن إسكانه متضمن لإسكانهم . { بوادٍ غير ذي زرع } يعني وادي مكة فإنها حجرية لا تنبت . { عند بيتك المحرّم } الذي حرمت التعرض له والتهاون به ، أو لم يزل معظما ممنعا يهابه الجبابرة ، أو منع منه الطوفان فلم يستول عليه ولذلك سمي عتيقا أي أعتق منه . ولو دعا بهذا الدعاء أول ما قدم فلعله قال ذلك باعتبار ما كان أو ما سيؤول إليه . روي أن هاجر كانت لسارة رضي الله عنها فوهبتها لإبراهيم عليه السلام فولدت منه إسماعيل عليه السلام ، فغارت عليهما فناشدته أن يخرجهما من عندها فأخرجهما إلى أرض مكة فأظهر الله عين زمزم ، ثم إن جرهم رأوا ثم طيورا فقالوا لا طير إلا على الماء ، فقصدوه فرأوهما وعندهما عين فقالوا أشركينا في مائك نشركك في ألباننا ففعلت . { ربنا ليقيموا الصلاة } اللام لام كي وهي متعلقة ب { أسكنت } أي ما أسكنتهم بهذا الوادي البلقع من كل مرتفق ومرتزق إلا لإقامة الصلاة عند بيتك المحرم . وتكرير النداء وتوسيطه للإشعار بأنها المقصودة بالذات من إسكانهم ثمة ، والمقصود من الدعاء توفيقهم لها . وقيل لام الأمر والمراد هو الدعاء لهم بإقامة الصلاة كأنه طلب منهم الإقامة وسأل من الله تعالى أن يوفقهم لها . { فاجعل أفئدة من الناس } أي أفئدة من أفئدة الناس ، و{ من } للتبعيض ولذلك قيل لو قال أفئدة الناس لازدحمت عليهم فارس والروم ولحجت اليهود والنصارى ، أو للابتداء كقولك : القلب مني سقيم أي أفئدة ناس . وقرأ هشام " أفئيدة " يخلف عنه بياء بعد الهمزة . وقرئ " آفدة " وهو يحتمل أن يكون مقلوب " أفئدة " كآدر في أدؤر وأن يكون اسم فاعل من أفدت الرحلة إذا عجلت أي جماعة يعجلون نحوهم " وأفدة " بطرح الهمزة للتخفيف ، وإن كان الوجه فيه إخراجهما بين بين ويجوز أن يكون من أفد . { تهوي إليهم } تسرع إليهم شوقا ووداداً . وقرئ " تهوى " على البناء للمفعول من أهوى إليه غيره و " تهوى " من هوى يهوي إذا أحب ، وتعديته بإلى لتضمنه معنى النزوع . { وارزقهم من الثمرات } مع سكناهم واديا لا نبات فيه . { لعلهم يشكرون } تلك النعمة ، فأجاب الله عز وجل دعوته فجعله حرما آمنا يجبيء إليه ثمرات كل شيء حتى توجد فيه الفواكه الربيعية والصيفية والخريفية في يوم واحد .
وقوله : { ومن ذريتي } يريد : إسماعيل عليه السلام ، وذلك أن سارة لما غارت بهاجر - بعد أن ولدت إسماعيل - تعذب إبراهيم عليه السلام ، بهما ، فروي أنه ركب البراق وهو وهاجر والطفل - فجاء في يوم واحد من الشام إلى بطن مكة ، فنزل وترك ابنه وأمته هنالك ، وركب منصرفاً من يومه ذلك ، وكان هذا كله بوحي من الله تعالى فلما ولَّى دعا بمضمن هذه الآية ، وأما كيفية بقاء هاجر وما صنعت وسائر خبر إسماعيل ، ففي كتاب البخاري والسير وغيره .
و { من } في قوله : { ومن ذريتي } للتبعيض ، لأن إسحاق كان بالشام ، و «الوادي » : ما بين الجبلين ، وليس من شروطه أن يكون فيه ماء .
وهذه الآية تقتضي أن إبراهيم عليه السلام قد كان علم من الله تعالى أنه لا يضيع هاجر وابنها في ذلك الوادي ، وأنه يرزقهما الماء ، وإنما نظر النظر البعيد للعاقبة فقال : { غير ذي زرع } ، ولو لم يعلم ذلك من الله لقال : غير ذي ماء على ما كانت عليه حال الوادي عند ذلك{[7087]} .
وقوله : { عند بيتك المحرم } إما أن يكون البيت قد كان قديماً - على ما روي قبل الطوفان ، وكان علمه عند إبراهيم - وإما أن يكون قالها لما كان قد أعلمه الله تعالى أنه سيبني هنالك بيتاً لله تعالى ، فيكون محرماً . ومعنى { المحرم } على الجبابرة وأن تنتهك حرمته ويستخف بحقه - قاله قتادة وغيره .
وجمعه الضمير في قوله : { ليقيموا } يدل على أن الله قد أعلمه أن ذلك الطفل سيعقب هنالك ويكون له نسل . واللام في قوله : { ليقيموا } هي لام كي هذا هو الظاهر فيها - على أنها متعلقة ب { أسكنت } ، والنداء اعتراض ، ويصح أن تكون لام أمر ، كأن رغب إلى الله أن يوفقهم بإقامة الصلاة ، ثم ساق عبارة ملزمة لهم إقامة الصلاة ، وفي اللفظ على هذا التأويل بعض تجوز يربطه المعنى ويصلحه .
و { أفئدة } : القلوب ، جمع فؤاد . سمي بذلك لإنفاده ، مأخوذ من فأد ومنه المفتاد ، وهو مستوقد النار حيث يشوى اللحم{[7088]} .
وقرأ ابن عامر بخلاف : { فاجعل أفئدة } بياء بعد الهمزة{[7089]} .
وقوله : { من الناس } تبعيض ، ومراده المؤمنون ، قال مجاهد : لو قال إبراهيم : أفئدة الناس - لازدحمت على البيت فارس والروم . وقال سعيد بن جبير : لحجته اليهود والنصارى{[7090]} . و { تهوي } معناه : تسير بجد وقصد مستعجل ، ومنه قول الشاعر [ أبو كبير ] : [ الكامل ]
وإذا رميت به الفجاج رأيته . . . يهوي مخارمها هويَّ الأجدل{[7091]}
ومنه البيت المروي : [ السريع ]
تهوي إلى مكة تبغي الهدى . . . ما مؤمنو الجن كأنجاسها{[7092]}
وقرأ مسلمة بن عبد الله : «تُهوي » بضم التاء ، من أهوى ، وهو الفعل المذكور معدى بالهمزة ، وقرأ علي بن أبي طالب ومحمد بن علي ومجاهد «تَهوَى » بفتح التاء والواو . وتعدي هذا الفعل - وهو من الهوى - ب «إلى » ، لما كان مقترناً بسير وقصد . وروي عن مسلم بن محمد الطائفي : أنه لما دعا عليه السلام بأن يرزق سكان مكة من الثمرات بعث الله جبريل فاقتلع بجناحه قطعة من أرض فلسطين - وقيل من الأردن - فجاء بها وطاف حول البيت بها سبعاً ، ووضعها قريب مكة ، فهي الطائف ، وبهذه القصة سميت ، وهي موضع ثقيف ، وبها أشجار وثمرات وثم هي ركبة .