الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{رَّبَّنَآ إِنِّيٓ أَسۡكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيۡرِ ذِي زَرۡعٍ عِندَ بَيۡتِكَ ٱلۡمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ فَٱجۡعَلۡ أَفۡـِٔدَةٗ مِّنَ ٱلنَّاسِ تَهۡوِيٓ إِلَيۡهِمۡ وَٱرۡزُقۡهُم مِّنَ ٱلثَّمَرَٰتِ لَعَلَّهُمۡ يَشۡكُرُونَ} (37)

وقوله : { مِن ذُرِّيَّتِي } [ إبراهيم : 37 ] .

يريد : إِسماعيل عليه السلام ، وذلك أَنَّ سارَّة لمَّا غارَتْ بهاجَرَ بَعْدَ أَنْ ولدَتْ إِسماعيل ، تشوَّش قلبُ إِبراهيم مِنْهُما ، فروي أنَّه رَكِبَ البُرَاقَ هو وهَاجَر ، والطفلُ ، فجاء في يَوْمٍ واحدٍ من الشامِ إِلى بَطْنِ مَكَّة ، فتركَهُما هناك ، ورَكِبَ منصرفاً من يومه ذلك ، وكان ذلك كلُّه بوحْيٍ من اللَّه تعالى ، فلمَّا ولي ، دعا بمضمَّن هذه الآية ، وأمَّا كيفيَّة بقاء هَاجَرَ ، وما صَنَعَتْ ، وسائرُ خَبَر إِسماعيل ، ففي كتابِ البخاريِّ وغيره ، وفي السير ، ذُكِرَ ذلك كلُّه مستَوْعَباً .

( ت ) : وفي «صحيح البخاري » من حديثه الطويل في قصَّة إِبراهِيمَ مع هَاجَرَ وولدِهَا ، لما حَمَلَهُما إِلى مكَّة ، قال : ولَيْسَ بمكَّة يَومَئِذٍ أَحَدٌ ، وليس فيها ماءٌ ، فوضعهما هنالِكَ ، ووضَعَ عندهما جراباً فيه تمْر ، وسقاءً فيه ماءٌ ، ثم قَفَّى إِبراهيم منطلقاً ، فتبعْتهُ أمُّ إِسماعيل ، فقالَتْ : يا إِبراهيم ، أيْنَ تَذْهَبُ ، وتَتْرُكُنَا بهذا الوادِي الذي لَيْسَ فيهِ أَنِيسٌ ، ولا شَيْء ؟ فقالَتْ له ذلك مِرَاراً ، وجَعَلَ لاَ يَلْتَفِتُ إِليها ، فقالَتْ لَهُ : آللَّه أمَرَكَ بهذا ؟ قال : نعمْ ، قالتْ : إِذَنْ لاَ يُضَيِّعُنَا ، ثم رَجَعَتْ ، فانطلق إِبراهيمُ حتى إِذا كان عند الثَّنِيَّةِ حَيْثُ لاَ يَرَوْنَهُ ، استقبل بوجهه الْبَيْتَ ، ثم دعا بهؤلاءِ الدعَواتِ ، وَرَفَعَ يَدَيْهِ ، فقال : { رَبِّنا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المحرم } ، حتى بَلَغَ : { يَشْكُرُونَ } الحديثَ بطوله .

وفي الطريقٍ : «قالَتْ : يا إِبراهيم إِلى مَنْ تَتْرُكُنَا ، قال : إِلى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ ، قَالَتْ : رَضِيتُ ، انتهى . وفي هذا الحديثِ مِنَ الفوائِدِ لأرباب القلوبِ والمتوكِّلين وأهْلِ الثقة باللَّه سُبْحَانه ما يَطُولُ بنا سرْدُهَا ، فإِليك استخراجها ، ولما انقطعَتْ هاجَرُ وابنها إِلى اللَّه تعالى ، آواهما اللَّه ، وأنْبَعَ لهما ماءَ زَمْزَمَ المبارَكَ الذي جَعَله غذاءً .

قال ابنُ العربي : وقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : ( مَاءُ زَمْزَمَ لِمَا شُرِبَ لَهُ ) . قال ابن العربيِّ : ولقد كُنْتُ مقيماً بمكَّة سنَةَ سَبْعٍ وثمانينَ وأربعمائة ، وكنتُ أَشْرَبُ مَاءَ زَمْزَمَ كثيراً ، وكلَّما شرِبْتُ ، نَوَيْتُ بِهِ العِلْمَ والإِيمانَ ، ونَسِيتُ أنْ أشربه للعَمَلِ ، ففتح لي في العِلْمِ ، ويا لَيْتَنِي شربْتُه لهما معاً ؛ حتى يُفْتَحَ لي فيهما ، ولم يُقَدَّر ، فكان صَغْوِي إِلى العلْمِ أَكْثَرَ منه إِلى العمل ، انتهى من «الأحكام » .

و«من » في قوله : و{ مِن ذُرِّيَّتِي } ؛ للتبعيضِ لأن إِسحاق كان بالشَّام ، و«الوادِي » : ما بين الجبَلَيْن ، وليس مِنْ شرطه أَنْ يكون فيه ماءٌ ، وجَمْعُه الضميرَ في قوله : { لِيُقِيمُوا } : يدلُّ على أن اللَّه قد أعلمه أنَّ ذلك الطِّفْلَ سَيُعْقِبُ هناك ، ويكونُ له نسلٌ ، واللام في { لِيُقِيمُوا } : لامُ كي هذا هو الظاهر ، ويصحُّ أَنْ تكون لام الأمر كأنه رَغِبَ إِلى اللَّه سبحانه أَنْ يوفِّقهم لإِقامة الصلاة ، و«الأفئدة » القلوبُ جمْع فؤادٍ ، سمِّي بذلك ، لاتِّقَادِهِ ، مأخوذ من «فَأَد » ، ومنه : «المُفْتَأَدُ » ، وهو مستوقَدُ النَّار حيث يُشْوَى اللحْمُ . وقوله : { مِّنَ الناس } : تبعيضٌ ، ومراده المؤمنون ، وباقي الآية بيِّن .