الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري - الزمخشري  
{رَّبَّنَآ إِنِّيٓ أَسۡكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيۡرِ ذِي زَرۡعٍ عِندَ بَيۡتِكَ ٱلۡمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ فَٱجۡعَلۡ أَفۡـِٔدَةٗ مِّنَ ٱلنَّاسِ تَهۡوِيٓ إِلَيۡهِمۡ وَٱرۡزُقۡهُم مِّنَ ٱلثَّمَرَٰتِ لَعَلَّهُمۡ يَشۡكُرُونَ} (37)

{ مِن ذُرّيَّتِى } بعض أولادي وهم إسماعيل ومن ولد منه { بِوَادٍ } هو وادي مكة { غَيْرِ ذِى زَرْعٍ } لا يكون فيه شيء من زرع قط ، كقوله : { قُرْءَاناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِى عِوَجٍ } [ الزمر : 28 ] بمعنى لا يوجد فيه اعوجاج ، ما فيه إلا الاستقامة لا غير . وقيل للبيت المحرم ، لأنّ الله حرم التعرض له والتهاون به ، وجعل ما حوله حرماً لمكانه ، أو لأنه لم يزل ممنعاً عزيزاً يهابه كل جبار ، كالشيء المحرم الذي حقه أن يجتنب ، أو لأنه محترم عظيم الحرمة لا يحل انتهاكها ، أو لأنه حرّم على الطوفان أي منع منه ، كما سُمي عتيقاً لأنه أعتق منه فلم يستول عليه { لِيُقِيمُواْ الصلاة } اللام متعلقة بأسكنت ، أي : ما أسكنتهم هذا الوادي الخلاء البلقع من كل مرتفق ومرتزق ، إلا ليقيموا الصلاة عند بيتك المحرم ، ويعمروه بذكرك وعبادتك وما تعمر به مساجدك ومتعبداتك ، متبركين بالبقعة التي شرفتها على البقاع ، مستسعدين بجوارك الكريم ، متقربين إليك بالعكوف عند بيتك ، والطواف به ، والركوع والسجود حوله ، مستنزلين الرحمة التي آثرت بها سكان حرمك { أَفْئِدَةً مِّنَ الناس } أفئدة من أفئدة الناس ، ومن للتبعيض ، ويدل عليه ما روي عن مجاهد : لو قال أفئدة الناس لزحمتكم عليه فارس والروم ، وقيل : لو لم يقل { مِّنَ } لازدحموا عليه حتى الروم والترك والهند ويجوز أن يكون { مِّنَ } للابتداء ، كقولك : القلب مني سقيم ، تريد قلبي ، فكأنه قيل : أفئدة ناس ، وإنما نكرت المضاف إليه في هذا التمثيل لتنكير أفئدة ، لأنها في الآية نكرة ليتناول بعض الأفئدة . وقرئ : «آفدة » ، بوزن عاقدة . وفيه وجهان ، أحدهما : أن يكون من القلب كقولك : آدر ، في أدؤر . والثاني : أن يكون اسم فاعلة من أفدت الرحلة إذا عجلت ، أي جماعة أو جماعات يرتحلون إليهم ويعجلون نحوهم . وقرئ : «أفدة » ، وفيه وجهان : أن تطرح الهمزة للتخفيف ، وإن كان الوجه أن تخفف بإخراجها بين بين . وأن يكون من أفد { تَهْوِى إِلَيْهِمْ } تسرع إليهم وتطير نحوهم شوقاً ونزاعاً من قوله :

يَهْوِي مَخَارِمَهَا هُوِىَّ الأَجْدَلِ ***

وقرئ : «تُهْوَى إليهم » ، على البناء للمفعول ، من هوى إليه وأهواه غيره . وتهوى إليهم ، من هوى يهوي إذا أحب ، ضمن معنى تنزع فعدّى تعديته { وارزقهم مّنَ الثمرات } مع سكناهم وادياً ما فيه شيء منها ، بأن تجلب إليهم من البلاد { لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ } النعمة في أن يرزقوا أنواع الثمرات حاضرة في واد يباب ليس فيه نجم ولا شجر ولا ماء لا جرم أن الله عز وجلّ أجاب دعوته فجعله حرماً آمناً تجبى إليه . ثمرات كل شيء رزقاً من لدنه ، ثم فضله في وجود أصناف الثمار فيه على كل ريف وعلى أخصب البلاد وأكثرها ثماراً ، وفي أي بلد من بلاد الشرق والغرب ترى الأعجوبة التي يريكها الله بواد غير ذي زرع ، وهي اجتماع البواكير والفواكه المختلفة الأزمان من الربيعية والصيفية والخريفية في يوم واحد ، وليس ذلك من آياته بعجيب ، متعنا الله بسكنى حرمه ، ووفقنا لشكر نعمه ، وأدام لنا التشرف بالدخول تحت دعوة إبراهيم عليه السلام ، ورزقنا طرفاً من سلامة ذلك القلب السليم .