السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{رَّبَّنَآ إِنِّيٓ أَسۡكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيۡرِ ذِي زَرۡعٍ عِندَ بَيۡتِكَ ٱلۡمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ فَٱجۡعَلۡ أَفۡـِٔدَةٗ مِّنَ ٱلنَّاسِ تَهۡوِيٓ إِلَيۡهِمۡ وَٱرۡزُقۡهُم مِّنَ ٱلثَّمَرَٰتِ لَعَلَّهُمۡ يَشۡكُرُونَ} (37)

المطلوب الثالث قوله : { ربنا إني أسكنت من ذريتي } ، أي : بعض ذريتي أو ذرّية من ذريتي ، فحذف المفعول على هذا القول ، وهم إسماعيل ومن ولد منه فإن إسكانه متضمن لإسكانهم { بواد } هو وادي مكة المشرفة لكونه في فضاء منخفض بين جبال تجري فيه السيول { غير ذي زرع } ، أي : لا يكون فيه من الزرع قط ، فإنه حجري لا ينبت كقوله تعالى : { قرآناً عربياً غير ذي عوج } [ الزمر ، 28 ] بمعنى لا يوجد فيه اعوجاج { عند بيتك المحرم } ، أي : الذي حرمت التعرض له ، والتهاون به ، وجعلت ما حوله حرماً لمكانه ؛ أو لأنه لم يزل ممنعاً عزيزاً يهابه كل جبار كالشيء المحرّم الذي حقه أن يجتنب ؛ أو لأنه محترم عظيم الحرمة لا يحل انتهاكه ؛ أو لأنه حرّم على الطوفان ، أي : منع منه كما سمي عتيقاً ؛ لأنه أعتق منه فلم يستول عليه ، أو لأنه أمر الصائرين إليه أن يحرموا على أنفسهم أشياء كانت تحل لهم من قبل ، أو لأنه حرم موضع البيت حين خلق السماوات والأرض ، وحفه بسبعة أملاك ، وهو مثل البيت المعمور الذي بناه آدم فرفع إلى السماء السادسة ، وروي أن هاجر كانت أمة لسارة فوهبتها لإبراهيم عليه السلام فولدت منه إسماعيل ، فقالت سارة : كنت أريد أن يهب الله لي ولداً من خليله فمنعنيه ورزقه خادمتي ، وغارت عليهما ، وقالت لإبراهيم : بعدهما مني وناشدته بالله أن يخرجهما من عندها ، فنقلهما إلى مكة وإسماعيل رضيع حتى وضعهما عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد ، وليس بمكة يومئذ أحد ، وليس بها ماء فوضعهما هناك ، ووضع عندهما جراباً فيه تمر وسقاء فيه ماء ، ثم قفل إبراهيم منطلقاً ، فتبعته أم إسماعيل وقالت : يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولاشيء ؟ فقالت له ذلك مراراً ، وهو لا يلتفت إليها فقالت له آلله أمرك بهذا ؟ قال : نعم قالت : إذاً لا يضيعنا ، ثم رجعت ، فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ، ثم دعا بهؤلاء الدعوات ورفع يديه وقال : { ربنا إني أسكنت من ذريتي } حتى بلغ { يشكرون } وجعلت أم إسماعيل ترضعه وتشرب من ذلك الماء حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها وجعلت تنظر إليه يلتوي ، أو قال : يتلبط فانطلقت كراهية أن تنظر إليه فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها ، فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى من أحد ، فلم تر أحداً ففعلت ذلك سبع مرّات قال النبي صلى الله عليه وسلم فلذلك سعى الناس بينهما » فلما أشرفت على المروة سمعت صوتاً فقالت : صه ، تريد نفسها ثم تسمعت ، فسمعت أيضاً فقالت : قد أسمعت إن كان عندك غواث ، فإذا هي بالملك عند موضع زمزم فبحث بعقبه ، أو قال : بجناحه حتى ظهر الماء ، فجعلت تحوضه وتقول بيدها هكذا ، وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعدما تغرف قال ابن عباس : قال النبي صلى الله عليه وسلم «يرحم الله أمّ إسماعيل لو تركت زمزم أو قال لو لم تغرف من الماء لكانت زمزم عيناً معيناً » قال : فشربت وأرضعت ولدها ، فقال الملك : لا تخافوا الضيعة فإن هاهنا بيت الله يبنيه هذا الغلام وأبوه ، وأنّ الله لا يضيع أهله ، وكان البيت مرتفعاً من الأرض كالرابية يأتيه السيل فيأخذ عن يمينه وشماله ، فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جرهم أو أهل بيت من جرهم مقبلين من طريق كذا ، فنزلوا في أسفل مكة ، فنظروا طائراً : فقالوا إن هذا الطائر ليدور على الماء لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء ، فأرسلوا جرياً أو جريين فإذا هم بالماء ، فرجعوا فأخبروهم ، فأقبلوا وأم إسماعيل عند الماء ، فقالوا : أتأذنين لنا أن ننزل عندك فقالت : نعم ، ولكن لا حق لكم في الماء ، قالوا : نعم قال ابن عباس : قالت ذلك أمّ إسماعيل وهي تحب الأنس ، فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم ، فنزلوا معهم حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم فشب الغلام وتعلم العربية منهم ، وألفهم وأعجبهم حتى شب ، فلما أدرك زوّجوه امرأة منهم وماتت أم إسماعيل ، فجاء إبراهيم بعدما تزوّج إسماعيل وتقدّم تمام هذه القصة في سورة البقرة .

ثم قال : { ربنا ليقيموا الصلاة } اللام لام كي متعلقة بأسكنت ، أي : ما أسكنتهم بهذا الوادي المقفر الذي لا شيء فيه إلا لإقامة الصلاة عند بيتك المحرّم ، ويعمروه بذكرك وعبادتك وما تعمر به مساجدك ومتعبداتك متبرّكين بالبقعة التي شرفتها على البقاع مستعبدين بجوارك الكريم متقرّبين إليك بالعكوف عند بيتك والطواف به والركوع والسجود حوله مستنزلين الرحمة التي آثرت بها سكان حرمك ، وتكرير النداء وتوسطه للإشعار بأنهما المقصود بالذات من إسكانهم هناك ، والمقصود من الدعاء توفيقهم لها { فاجعل أفئدة } ، أي : قلوباً محترقة بالأشواق { من الناس } ومن للتبعيض ، والمعنى : واجعل أفئدة بعض الناس { تهوي } ، أي : تميل { إليهم } ويدلّ عليه ما روي عن مجاهد لو قال : أفئدة الناس لزحمتكم عليه فارس والروم والترك والهند . وقال سعيد بن جبير : لو قال أفئدة الناس لحجت اليهود والنصارى والمجوس ، ولكنه قال : { أفئدة من الناس } فهم المسلمون . وقال ابن عباس : لو قال : أفئدة الناس لحنت إليه فارس والروم والناس كلهم . ولما دعا لهم بالدين دعا لهم بالرزق فقال : { وارزقهم من الثمرات } ولم يقل : وارزقهم الثمرات ، وذلك يدل على أنّ المطلوب بالدعاء إيصال بعض الثمرات إليهم ، ويحتمل أن يكون المراد بإيصال بعض الثمرات إليهم إيصالها إليهم على سبيل التجارات كما قال تعالى : { يجبى إليه ثمرات كل شيء } [ القصص ، 57 ] حتى توجد فيه الفواكه الصيفية والربيعية والخريفية في يوم واحد ، وليس ذلك من آياته بعجب ، وأن يكون المراد عمارة القرى بالقرب منها لتحصل تلك الثمار . وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : كانت الطائف من أرض فلسطين ، فلما قال إبراهيم ذلك رفعها الله فوضعها حيث وضعها رزقاً للحرم . { لعلهم يشكرون } يدلّ على أنّ المقصود للعاقل من منافع الدنيا أن يتفرّغ لأداء العبادات وإقامة الطاعات ، فإنّ إبراهيم عليه السلام بين أنه إنما طلب تيسير المنافع على أولاده لأجل أن يتفرّغوا لإقامة الطاعات وأداء الواجبات .